عن صعود اليمين الإيطالي….
تشرين-عبد المنعم علي عيسى:
قد تكون هناك العديد من العوامل التي أدت إلى انقلاب المشهد السياسي الإيطالي الحاصل ما بعد 25 أيلول المنصرم الذي شهد انتخابات نيابية فرضها سقوط حكومة التكنوقراط بزعامة ماريو دراغي التي جيء بها شهر كانون الثاني 2021 لمعالجة أزمة اقتصادية كانت قائمة أصلاً، لكنها احتدمت بتضاعيف “كورونا” لتكون طبعتها هي الأكثر قساوة على البلاد منذ نحو نصف قرن من الزمن، وهي، أي تلك العوامل، في مجملها شكلت رافعة لصعود التيار اليميني تحت راية حزب “إخوان إيطاليا” الذي تتزعمه جورجيا ميلوني التي لم يمضِ على تشكل حزبها أكثر قليلاً من عشر سنوات، حيث سيحصل هذا الأخير على نسبة لا تتعدى الـ 4.2 % من تمثيل الشارع الإيطالي في انتخابات العام 2018، لكنه سيحصد منفرداً في انتخابات هذا العام نسبة بلغت 26 % من ذلك الشارع، ونسبة بلغت 43.8 % لكامل الائتلاف اليميني الذي جمعه جنباً إلى جنب حزب “فورزا” الإيطالي بزعامة رئيس الوزراء السابق سلفيو برلسكوني، وحزب “الرابطة” الإيطالي بزعامة ماتيو سالفيني، مع تسجيل تراجع التمثيل لهذين الحزبين الأخيرين عنه في انتخابات العام 2018، لصالح الصعود الصاروخي الذي حققه حزب ميلوني الجديد.
من بين تلك العوامل العديدة مناخ اللااستقرار الذي تشهده إيطاليا منذ فترة مديدة بدرجة أصبح الفعل فيها هو القاعدة في حين أصبح نقيضه، أي الاستقرار، هو الاستثناء، ولعل موجبات الفعل قائمة أصلاً على تركيبة سياسية مجتمعية باتت افتراقاتها أكثر بكثير من تلاقياتها، الأمر الذي يعبر عنه الرقم الـ71 الذي ستحمله الحكومة المقبلة على قائمة الحكومات التي تشكلت ما بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، أي بمعدل حكومة لكل عام تقريباً، ومنها الأزمة الاقتصادية التي تفاقمت في سني “كورونا” واضعة البلاد تحت وطأة دين يعادل 150 % من الناتج القومي للبلاد لتحل في المرتبة الثانية، بعد اليونان، على لوائح البلدان الأوروبية الأعلى مديونية، لكن من المؤكد أن السبب الأبرز، من بين تلك العوامل، يتمثل في الرياح الأوكرانية التي هبت على عمق، وأطراف، القارة الأوروبية حاملة معها لفحة “اليمين” التي تحمل القيادة الأوكرانية الراهنة رايته المشوبة بصبغة قومية متشددة راحت تأخذ أشكالاً أكثر تطرفاً على وقع عاملين اثنين، أولاهما، حالة الاحتياج الداخلي الذي فرضته متطلبات من نوع وجوب تماسك الجبهة الداخلية، ومن نوع الحفاظ على “خصوصية” الهوية التي تمثل إحدى أساسيات الصراع الدائر راهناً، والبادئ منذ ما يزيد على أشهر سبعة، وثانيهما، هو تغذية الغرب لحالة الاحتياج الداخلي آنفة الذكر بدرجة تجعل منها “ظاهرة” ذات تأثيرات ارتدادية في محيطها الأوروبي.
فوز اليمين الإيطالي يعني ميلاً إيطالياً للانغلاق داخل الحدود والابتعاد عن الانصهار في منظومة الاتحاد الأوروبي التي تلقت قبل نحو سنتين ضربة موجعة بظهور “البريكست” التي مثلت طريقاً للخروج البريطاني منها، والظاهر هو أنها، أي البريكست، كانت تجربة أثارت مخيلة العديدين الذين كان أولهم اليمين الإيطالي، والراجح، كما يبدو، أن الأمريكان يعملون على الدفع قدماً بهكذا مسارات أوروبية من شأنها أن تفضي إلى تلاشي منظومتهم التي شكلت في مرحلة ما تكتلاً اقتصادياً بدا منافساً أول للاقتصاد الأمريكي الذي تعدّه واشنطن ذراعها الأمضى في هيمنتها العالمية.
كخلاصة، يمثل صعود اليمين الإيطالي ظاهرة بالغة الدلالة على تحولات قادمة ستكون القارة الأوروبية على موعد معها، ولسوف تكون له ارتدادات يمكن لها أن تستنسخ التجربة في مناطق عدة باتت تبدي نزوعاً نحو ذلك الاستنساخ.