من دار النشر إلى قصر الفنون!
يتوافد “الضيوف الكبار” بهدوء ويتوزعون تحت الشجيرات العتيقة وحول النافورة ويتهامسون بأحاديث متقطعة بانتظار بدء “احتفال” التوقيع، وبين آن وآن تلتقط أيديهم كؤوس القهوة من نُدلٍ أنيقي الملابس والابتسامات، وفي زاوية ظليلة يقف عازف كمان يجدّد مقطوعاته من دون أن يلتفت إليه أحد (إنه جزء من العناصر المحيطة بحفل التوقيع) حتى تهِلَّ الكاتبة وتأخذ مكانها وراء المنضدة المزيّنة بورد أبيض متقزِّم وهي بكامل قيافتها تذكّرني بقول أحد الخبراء: إن أجمل “ماكياج” هو غير المرئي! يتنحنح رجلٌ وقور ويطري الكاتبة ثم يبدأ بمطالعة الكتاب افتراضياً: -خلاصة التجربة الثرية التي عاشتها والتأملات العميقة في تغيرات عصرها واللغة الفريدة التي لم يأتها قلمٌ قبلها، وفي اللحظة ذاتها تجمّع الضيوف متباطئين حول المنضدة من جهاتها الثلاث وأيديهم في جيوبهم ينتظرون دورَهم في الدفع والفوز بالإهداء والتوقيع، وأنا بخيالي القصصي أشعر كم من غصة مرّت في صدور بعضهم وهم مرغمون على دفع الثمن الغالي للتجربة الثرية والتأملات العميقة في تغيرات عصرهم واللغة التي لم يأتها قلمٌ من قبل!
بدَّد صديق وجومي وأنا أتأمل جماليات المكان بعد ارتفاع اللّغط وصمت الكمان: -إنه الكتاب الأول وليس من الضروري أن يكون بمستوى “فولتير” ولا حتى “عبد الله عبد”! كم أحسن إليّ هذا الصديق بملاحظته الطريفة التي قذفتني سريعاً إلى أرض الأدب الواسعة، رغم أنه لم يذكر إلّا اسمين من عباقرة هذا الأدب الذي يجمع مبدعيه متجاوزاً اللغات والقوميات والأعمار والانتماءات! كان، ضمناً، يشير إلى أعلامٍ من روسيا وآسيا وأوروبا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، لكن كان لكلّ واحد منهم مرحلةُ نشوء قبل الارتقاء! وكانت مرحلة الارتقاء طويلة ومضنية، عامرة بالشكوك والبحث والجَمْع والحذف والتخمير والخجل من الإبداع نفسه قبل أهله! قلت للصديق كأنه سمع كل التداعيات التي مرّت سريعاً في خاطري: -الأعمال الأولى لـ “تشيخوف” و”هيرمان هيسه” و”غوغول” و”فولتير” و”تولستوي” و”بورخيس” و” ماركيز” وغيرهم كثير، نُشرت بعد أن تربعوا على عرش الشهرة وبات حصادهم الإنساني رصيداً يستعصي على التبدد والزوال! تلك الأعمال التي نامت كمخطوطات في الأدراج والحقائب لأن أصحابها ضنّوا على بحيرة الإبداع بما حسبوه حصوات لا تغني ارتفاع منسوب الماء، وتركوها في العتمة والظل قبل أن يرحب بهم النقّادُ والقراء، ولتعلم أن “أرنستو ساباتو” أحرق كلّ مؤلفاته لشكّه في قيمتها! ألا ليت متحدّث الحفل ذكر شيئاً عن زمن النشوء لدى الكاتبة قبل توقيعها بالقلم الذهبي أو مرّ على جزئيةٍ من تبدلات العصر الذي بات يرقّي أبناءه إلى القمم مباشرة من دون تعب ولا نصَب! أقلتُ “قمم”؟ إنها أيضاً افتراضية ووهمية مهما أُحيطت بالأبهة في المكان والمدعوين والتزيين وعزف كمان، لزومَ الهيمنة على الحواس والذائقة وملَكَة التفكير!
نهلة سوسو
123 المشاركات