مستقبل الفلسفة وتدبير نفايات المفاهيم
إدريس هاني:
بما أن الفلسفة كما شاء لها قدرها التّاريخي أن تكون هي أرقى مستويات التّفكير، فإنّ هذا يفرض سؤالاً ملحّاً: هل الفلسفة اكتشاف أم حرفة؟
الشرط السكولاستيكي على ما يعانيه في عصرنا وتحديداً في بيئتنا، على قدر من الأهمية في استيعاب دروب وفتوق القول الفلسفي، ما يعزز استمرارية البناء ويعفي العقل من التكرار. غير أنّ مهمة الفلسفة وماهيتها لا تتوقفان عند هذا الشرط العرضي، بل هي ملكة تمكن الفكر من أن يكون تجربة في صلب الوجود، وأنّ الفلسفة استكشاف لا ينضب وحقل يتمتع بالخصوبة الدّائمة. لا ملل في الفلسفة والفكر، والملل مؤشر أفول الفلسفة وتحولها إلى أصنام تستحق فؤوساً للكسر كما فعل نيتشه بلا تردد.
الانسدادات التي يشهدها حقل الفلسفة، نابعة من انحسار التفكير.. ونضوب البيئة العربية من الإبداع نابع من أنّ الفلسفة لم تعد شكلاً أرقى من التفكير بقدر ما باتت حرفة، أي صناعة. والصناعة تعزز التكرار، بينما الإبداع يتهدد الصناعة نفسها، لأنّه يفرض عليها تفكيك بنياتها وإعادة صياغة أسئلتها. الصناعة تنتهي بتعزيز التقليد وتحويله إلى بداهة، بينما الفلسفة تُسائل ما «استعرف» و«تبدّه»، وشرط قيام جوابها تخريب هيكل البداهات العرفية.
وأسميها بداهات عرفية لأنّها ليست بداهات حقيقية، والأعراف الفلسفية بطبيعتها تميل إلى «تبديه» وضعيتها كسلطة معرفية تعوق وتؤخّر التطور الفكري وترفع من أمامه جدوى الاستكشاف.
التنزيل هو صناعة، لكن ما قبل التنزيل هو التفكير. ألا يعني هذا أنّ معضلة الفلسفة اليوم فقدت صلابتها السكولائية وملكة الاستكشاف؟
يغلب على الخطاب الفلسفي اليوم، الصناعة، أي تقتصر المحاولة الفلسفية على هذا التمرين الذين تقوده الواهمة إزاء المفاهيم التي تحوّلت إلى أشياء، وتعود مرة أخرى كظواهر تشبه الإحساسات، لتعرض نفسها مجدداً على الفاهمة. صلابة استعراف المفاهيم تحوّلها إلى أشياء.
مازلت مصرّاً على إخضاء المُنتج الفلسفي للمقاربة الأنثربولوجية. فالفلاسفة العرب، أي محترفوها السكولاريون وليس السكولاستيكيين، أكثر من جنى عليها وحوّلها إلى تدبير نفايات المفاهيم. وهم أجبن الناس على معاقرة الإبداع، وتبلّدهم ليس له نظير، وبطء فاهمتهم يصيبك بخيبات الأمل. وحتى من يستبدع الفلاسفة هو يخفي تدبير نفاياتها المفاهيمية.
إنّ التفكيك الحقيقي لهذه البنيات حتى في الغرب يضعنا أمام تنويعات تترى، يمكن اختزالها في أقطاب، اختصاراً للوقت وتخفيفاً يساعد على إطلاق ملكة الإبداع خارج تراكمات فلسفية يمكن الوقوف عند تكراراتها. وإذا برحنا المنعطف الديكارتي ومن دار مداره أو انعطف داخل مداره، فإنّ نيتشه هو الفيلسوف الغربي الحرّ، الوحيد الذي امتلك الشجاعة لهدم الأصنام. وهو إذ فعل ذلك، خلف وراءه مداميك لاستئناف القول الفلسفي وإقامة بنيات صلبة؛ الكل مدين له في البناء، لكن ما بدا عدمية هو قراءة نيتشه صبيحة فعل الهدم لموانع التفكير الحرّ وليس قراءة في ممكنات فلسفته.
وحتى لا يُقال: أنّى يكون هذا، ونيتشه لم يترك بناء إلّا حطّمه؟ والحق سأضرب لك مثلاً يكفي لمعرفة هذا الإلهام الكبير لنيتشه، ليس في تأمّلات الفلاسفة بل حتى في مسارات السوسيولوجيا. ما لا يلتفت إليه مؤرخ الفلسفة، ظاهرة سراق الفلسفة، حيث تعرض نيتشه للنشل، ممن عاصروه وممن تلوه. وقد آن الأوان أن نكشف عن هذه الجريرة:
يطلق ماكس ويبر مفهوم نزع السحر عن العالم ويتبعه بتوسع مارسيل غوشيه، ولا أحد يذكر بأنّ نيتشه جعل ذلك في إحدى شذراته بمنزلة دعوة للفلسفة إزاء العلوم من خلال نزع ماديتها: أليس هذا مبتغى إعادة اكتشاف مادية المادة لدى غاستون باشلار، تفكيك مادية المادة من خلال الكوانتوم، حيث باتت المادة طاقة، وإشارات ووو. وعلى المنوال نفسه تأتي دعوة نيتشه وليس توصيف الحداثة عند ويبر، كنزع لتصويف الآلهة ونزع الساحرية، ما جعله نيتشه مهمّة للفلسفة جواباً عن ما الفلسفة؟ وجعله ماكس ويبر توصيفاً للحداثة، بوصفها نزع السحر عن العالم. فكرة الـ(le désenchantement) الويبرية هي نيتشية بامتياز.
ثمّة إعادة تدبير للمفاهيم، أحياناً يخرجها من خصوبتها : ما بين ما يجب أن تكون عليه الفلسفة وبين ما عليه الحداثة؟ هل يا ترى نزعت الحداثة عن نفسها السّحر؟ وماذا عن الأيديولوجيا التي ورثت كل هذا الابتهاج والساحرية عن العالم، وهي ظاهرة الحداثة الفائقة؟ فلاسفتنا الاحترافيون يتعاملون مع المفاهيم كأشياء محسة، يُعاد تفهيمها. شكل من التكرير، مصانع تدبير النّفايات. من يا ترى يملك تغيير هذه العادات التي آل إليها الإنتاج الفلسفي، والسباق حول من يدبر النفايات أكثر. وربما أحياناً هناك من يهدم هيكل المفاهيم ويترك خلفه الكثير من التّفاهات التي تجعل من الفلسفة أيديولوجيا للخداع، ومنح التفاهة قواماً فلسفياً. نحن اليوم في حافة نهاية التفكير، وبالتالي الفلسفة، ما لم نكتشف روح الفلسفة التي كانت ويجب أن تكون دائماً، تفكيك المستعرف لمزيد من الاكتشاف.. إنّ الفلسفة مغامرة وشجاعة ومكابدة، الفرق بين الفيلسوف الحقيقي والفيلسوف الكادح (الزوفري) حسب الثنائية النيتشية، هو تماماً كالفرق بين الرياضي والأرتمتيقي، الفلسفة قبل أن تصبح تنزيلاً جامداً للمفاهيم هي إشراق وصعود وتعالٍ بالمستعرف . ترى، ما مستقبل الفلسفة عالمياً وعربياً تحديداً، إذا استمرت الفلسفة كصناعة تدوير وتدبير النفايات؟