أعجبني ما طرحته الباحثة الفلسطينية مياده عصفور، وما أعادت التذكير به حول (مصطلح الحريم) الذي بات يستعمل من دون تدقيق، ومن دون الانتباه إلى أصله وتأثيره.
الباحثة عصفور وفي مداخلة صوتية مع موقع عربي ذكرتنا أن هذا المصطلح (الحريم) هو مفهوم معماري، نشأ وأطلق على المقصورة أو العنبر الذي تمكث فيه نساء وجواري السلطان، وهو جزء من عمارة قصر السلطان العثماني سمي (الحريم) لأنه يحرم على غير السلطان من الرجال دخوله، انظروا كم تعبر الأمكنة والعمارة عن مفاهيم وقيم عصرها وأصحابها، وهذا العنبر وهذه المقصورة المبنية من الحجر في قصر السلطان والمسمى بـ(الحريم) كم تدل على معنى النساء عند هذه السلطة وهذا المجتمع، وبالتأكيد هو معنى غير إنساني، ويدل على إنسانية معتمديه في تلك العصور من السلطنة العثمانية..
الأخطر أن المصطلح المعماري انتقل ليصبح مصطلحاً اجتماعياً يطلق على النساء أنفسهن ويعمم عليهن، اسم المكان الذي كان مخصصاً لجلوس الجواري والنساء انتظاراً للسلطان، أصبح اسمهن وبتن كالمقصورة أو العنبر (حريم)، وهذا النقل للمصطلح المعماري المتعلق بالحجر إلى البشر وإلى النساء وإلى الإنسان، هو نقل تعسفي وجريمة بحق المرأة، لأنه صار يعاملها معاملة المكان والحجر ويسميها على اسميهما.
والافتراء الذي جرى عبر العقود كان بالإيحاء أن مفهوم الحريم هو من الدين الإسلامي، ويتهم الدين بكل ناتج وممارسة لهذا المفهوم، علماً أنه غير موجود في الإسلام، وغير وارد في التراث الإسلامي، ولم يذكر في القرآن، وسميت المرأة في كتاب الله بأسمائها (مريم، بلقيس، امرأة فرعون، زوجات النبي، امرأة أبي لهب..إلخ) وسمي في الحياة العربية كالرجال؛ فلانة بنت فلان، زينب بنت علي، فاطمة بنت رسول الله، حفصة بنت عمر، عائشة بنت أبي بكر، هند بنت عتبة …إلخ)، كما سميت بصفتها (ذات النطاقين، الخنساء، زرقاء اليمامة، العذراء.. إلخ) وكان الاحترام ملازماً لذكرها (السيدة خديجة، السيدة عائشة، مريم العذراء، فاطمة الزهراء…إلخ) وهكذا فإن مفهوم (الحريم) ليس إسلامياً أبداً، وكذلك ليس عربياً على الإطلاق، بل هو مفهوم سلطاني عثماني، ولد كشكل من أشكال تقديس غرائز السلطان، واستمر باستمرار استبداد وديكتاتورية السلاطين على المرأة امتداداً لاستبدادهم على المجتمع، وبدأ من إطلاقه كاسم معماري لمكان تحتجز فيه المرأة، وانتقل ليصف المرأة ذاتها، ويكبلها بهذا المفهوم كهوية جندرية متخلفة، هو مفهوم سلطاني عثماني ليس عربياً ولا إسلامياً ولا ذنب للإسلام أو العروبة فيه، ولكن ذنب العرب والمسلمين أنهم لم يراجعوا أو يدققوا في هذا المفهوم أو في نقله من مفهوم معماري إلى مفهوم يستعبد المرأة في إنسانيتها، وهذا جزاء ما ورثناه عن الخلافة العثمانية وسلاطينها، وهذا ما علينا أن نحذفه من مفاهيمنا وممارساتنا وثقافتنا.