بليغ حمدي في سورية ورحلته من تراثها ومطربيها إلى نقادها وأفلامها
سامر الشغري:
تحفل تجربة الموسيقار المصري الراحل بليغ حمدي التلحينية -الذي مرت ذكرى رحيله التاسعة والعشرون 12 أيلول الجاري- بالعديد من المحطات، من الغناء العاطفي إلى الشعبي والتراثي والوطني والمسرح الغنائي والموسيقا التصويرية، كما أن عشقه للسفر جعله ميالاً للترحال وعدم الاستقرار فتنقل بين العديد من الأقطار والتَّف حوله المعجبون، ولكن من بين هذه المحطات والأقطار كان للمحطة السورية وللشام مكانة أثيرة في قلب بليغ.
عندما كان بليغ منتصف ستينيات القرن الماضي يبحث لنفسه عن تجربة خاصة تعطيه التميز والفرادة، كانت الأغنية الشعبية والتراث وسيلته إلى ذلك من خلال الفلكلور المصري بأنواعه القاهري والصعيدي والإسكندراني، وكان أول ما لفت انتباهه من خارج أرض الكنانة التراث السوري، والذي شده إليه غناه وتنوعه فأخذ يستمع ويدرس عيون أعماله ليقدم من خلاله عدة أغان أشهرها (آه يا اسمراني اللون، ومداح القمر).
لقد استقى بليغ لحن أغنية (آه يا اسمراني اللون) التي غنتها شادية سنة 1966 من التراث الدمشقي، وطلب من الشاعر المصري الراحل عبد الرحمن الأبنودي أن يكتب نصاً مصرياً لهذه الأغنية الشامية حيث حققت أغنية شادية نجاحاً كبيراً وغنّاها بعدها عدد من المطربين بينهم محمد منير.
أما أغنية (مداح القمر) لعبد الحليم حافظ فكانت ثاني الأعمال الطويلة التي لحنها بليغ للعندليب الأسمر، واستعان من خلالها بالقد الحلبي الشهير (قدك المياس يا عمري) الذي وضعه لازمة تتكرر مع كل مذهب في الأغنية التي كتبها محمد حمزة، وسار اللحن على منوال القد الحلبي حتى لا يكون هناك انقطاع في النغم، لتحدث هذه الأغنية ضجة هائلة لدى تقديمها للمرة الأولى جماهيرياً سنة 1971، ولكنها أثارت غيرة الملحنين الذي اتهموا بليغ بأنه بنى نجاح أغنيته من جمال القد السوري.
أما رحلة بليغ مع الأصوات السورية فهي أكثر غنى وامتداداً، لأن كل المطربين الذين جاؤوا من سورية ليغنوا في مصر طرقوا بابه طالبين ألحانه، بدءاً من نجاة الصغيرة وفايزة أحمد وفهد بلان مروراً بسهام إبراهيم انتهاء بأصالة نصري.
وعندما ندرس تجربة بليغ مع المطربين السوريين، سوف يلفتنا أن كل الأغاني التي قدمها لهم كانت باللهجة المصرية، ومن المؤسف أن مطربينا لم يطلبوا منه أن يلحن لهم نصاً بلهجة سورية أسوة بسعدون جابر وبمطربين خليجيين.
ولكن هناك قصص غريبة سنكتشفها خلال تعاون بليغ مع فنانين سوريين، فالمطرب الكبير موفق بهجت الذي غنى له (يمكن على بالو حبيبي) التي قدمتها بعد ذلك عفاف راضي، روى متأخراً وبعد مرور ثلث قرن بأن الأغنية من كلماته وألحانه هو ولكنه أعطاها لبليغ بناء على طلبه ولمحبته له.. القصة الثانية الغريبة يحكيها المطرب بسام حسن الذي غنى من ألحان بليغ (دقوا الأحباب عالباب)، التي كانت غنتها قبله شريفة فاضل بلحن مختلف، فأعطاها بليغ لبسام بعد أن عدّل في اللحن الأول، وقدم له أيضاً أغنية بعنوان (عيد ميلادي) التي لا يغنيها بسام كثيراً لمأساويتها الشديدة كما يقول.
التجربة السورية الأكثر توهجاً ونجاحاً عند بليغ كانت مع مطربة الجيل ميادة الحناوي، إذ بعد أن سعت وردة الجزائرية وأخريات إلى إخراجها من مصر، لحق بها بليغ إلى سورية عقب طلاقه من وردة حيث أقام مطولاً وكرس لها كل إبداعاته، وشرع يلحن ويؤلف لها أيضاً باقة من الألحان مفرطة الشجن والتي جعلت النقاد يرون أن هذه الأغاني رسائل حب إلى زوجته السابقة وردة من (الحب اللي كان، وفاتت سنة، ومش عوايدك، وأول حبيب، وأنا بعشقك وغيرها).
خلال إقامة بليغ في دمشق عرض عليه مسؤولون في وزارة الإعلام تلحين قصيدة (جبهة المجد) للشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري، ولكنه بعد أن قرأها لمس ما فيها من جزالة فاعتذر عن تلحينها وقال “دي حجارة ما تتلحنش”، ليتولى تلحينها الموسيقار السوري صفوان بهلوان وتغنيها ميادة.
رغم العلاقة القوية لبليغ مع سورية بتراثها ومطربيها فإن آراء النقاد السوريين حيال تجربته بالمطلق كانت سلبية على العموم، فالباحث والمؤرخ الراحل صميم الشريف وجد بليغ أنه “بندق التخت الشرقي بما حشره فيه من آلات كالساكسفون والغيتار الكهربائي” ووصف ألحانه بأنها تميل إلى “التزلف وإلى الطرب الغريزي وبأنها مدعاة للرقص”.
على أن الأثر الأجمل لبليغ في سورية ومبدعيها تجلى في واحد من أجمل أفلام عبد اللطيف عبد الحميد وهو (عاشق الروح) إنتاج سنة 1998، عندما نجد بطله (سامر)، ويلعب دوره بسام كوسا مغرماً بألحان بليغ ويواظب على الاستماع لها، ولكنه حين يسمع من الراديو خبر وفاته يتملكه الحزن ويهرع مسافراً إلى مصر ليطل من برج القاهرة ويعزي باسم السوريين كل المصريين على رحيل بليغ حمدي..