في الكينونة والصّمت والمعنى

إدريس هاني:
هذا الصّمت الرّخيم حدّ البلاغة، صمت متخم بسجع الطمأنينة، يكاد لايوجد سوى في الكاتدرائيات والكنائس القائمة أو المعابد المهجورة. باتت عبادتي هي الصّمت، وحيثما وُجد الصّمت حلّ المعنى وتمجّد. وأمّا الضوضاء، فهو عندي مساوق للكفر، لأنّه يحجب المعنى، ذلك المعنى الذي يقتضي أن نصمت قليلاً ونقاوم الضوضاء كثيراً، فالمعنى يوجد حيث تنتهي مهمّة الكلام. وعلى ممشى هذا الصمت سار القدّيس يتلحّف سمت الإشراق.
كيف تكون مؤمناً من دون اكتساب دُربة الصّمت والإنصات. هذه الدّيار العامرة بالرّطانة، خطر على الأمن البيئي. بلغ التلوّث مداه من فرط لغة فقدت شرطها التواضعي الذي ارتقى بها إلى أن تصبح منزل الوجود، هذه الضوضاء تشوّش على الوجود؛ لا جرم أنّنا سنواصل هذا الضجيج حتى نفقد آخر رمق من الوجود؛ هنا وحين يطغى الضجيج، تصبح اللغة مقتلاً للوجود.
في هذا الصّمت التواصلي تُشرق الذّات، تلك التي فقدت معناها في فضاء الضوضاء العمومي. أبحث عن كسرة صمت، عن بقايا أصل الكلام، عن المعنى قبل أن يسرقه الكلام.
أتساءل على غير ما التفت إليه فلاسفة الصّمت عن الحقيقة التي يفسدها الكلام. في الصمت يتعذّر الكذب، لأنّ للصمت فُتوّة ومروءة قبل أن يتزندق بالكلام. في الصمت تكون الذّات هي الطرف الآخر لأناها، هي ذات حميمية صادقة قبل أن يمحق براءتها الكلام؛ ذلك الذي تفرضه العنايات العرفية في مواضعاتها التي تولد قبل ولادة المعنى في صمتنا الرخيم. أستطيع مذّاك أن أنصت لأغنية الصّمت، لهذا المقام السّري الذي يفيض بالنّغم، حتى الموسيقا يحبكها الصمت قبل أن تنثال على السلم الموسيقي. حتى الكلام لا يستقيم حتى نتعلّم أبجدية الصّمت، لأنّ الصمت الذي يتخلل الكلام، هو ليس استراحة، بل هو ضمير الكلام، قلّما نلتفت إليه في هذا الصبيب الكلامي الذي يتهدد مصير الصّمت.
ترى، أليس حريّاً أن نعرّف الإنسان بأنه كائن صامت؟ سيقولون إنه تعريف ينحدر به إلى البكماوات؟ لكن الصمت هنا ليس صمتاً أبكم، بل هو صمت ناطق، صمت يمنح معنى للكلام. إذاً، فالناطقية هنا ليست كافية إن لم نتداركها بمزيد من الاشتراط، لأنّ الكلام مجرد الكلام أيضاً ليس كافياً، فاللوغوس أو الخطاب يشمل هنا الصمت أيضاً: خطاب الصمت، اللغة غير الصادحة، تلك اللغة التي تستوعب الشعور، الأحاسيس، الصور، الرموز، بلا حدود.
نعرف الإنسان بأنه ناطق، فإذا نطق فقلّما تظهر إنسانيته، ثم نمتحنه بالصمت كي يظهر شرف ماهيته. الصّامتون هم حقّاً من أدركوا أنّ التعريف الأتمّ للإنسان هو أنه كائن ناطق بالخير، فإن لم يجده فليصمت.

* كاتب من المغرب

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار