رياض السنباطي 41 عاماً على رحيله ولايزال حارس مرمى الموسيقا العربية
سامر الشغري
يردد عتاولة عشاق سيدة الغناء العربي أم كلثوم مقولة تحولت كقول مأثور مفادها ((إذا أردت أن تتكلثم فتسنبط))، كناية عن ارتباط هذه المطربة الاستثنائية في تاريخ الغناء بملحن فريد وأصيل ومبدع اسمه رياض السنباطي..
السنباطي الذي يصادف يوم 10 من أيلول ذكرى وفاته الحادية والأربعين، لم يكن موسيقاراً كبيراً فحسب، بل كما لُقب حارس مرمى الموسيقا العربية، وبغيابه تعرضنا لأهداف كثيرة باسم الحداثة والمعاصرة والتطوير.
لم يتكرر السنباطي في عبقريته ولا في أصالته، بل إنه الملحن الوحيد الذي لم يتأثر بموسيقا تركية أو أوروبية، بالمحصلة لم يستلهم جملة موسيقية واحدة غير عربية.. ونجم هذا الملحن الذي سطع منذ ثلاثينيات القرن الماضي كان ليأخذ منحى مختلفاً مع أسمهان صاحبة الصوت السوري الأنثوي الجبار، لقد لحن قصيدة (يا لعينيك ويا لي) ثم عرضها على أم كلثوم فرفضت أداءها لروحها التجديدية، فقدمها لأسمهان التي غنتها سنة 1938، ولكن السنباطي بعدها ظل أكثر وفاء للنمط الشرقي الصميمي حرصاً على علاقته مع أم كلثوم، ليكشف في السنوات الأخيرة من تعاونه معها، أنه إذا شاء فإنه تجديدي بامتياز وبمستوى أمراء التحديث في الغناء العربي.
والسنباطي هو أمير تلحين القصائد بلا منازع، ولا يستطيع أحد مقارعته في هذا المجال، حيث تنطع لتلحين قصائد غاية في الكلاسيكية ينفر منها عادة ملحنون غيره، وصنع منها ملاحم موسيقية من أغانٍ ذات طابع صوفي أو ديني، مثل “سلوا قلبي” و “نهج البردة “و “رباعيات الخيام”، وقدم فيها أسلوباً سنباطياً قوامه الوحدة الموسيقية والانتقال الحذر والمدروس بين المقامات ذات الطابع الشرقي الصرف، في إطار طربي وصفه الباحث الراحل صميم الشريف بالتطريب النفسي.
ومن بين قصائده لأم كلثوم تشمخ (الأطلال) رائعة الشاعر إبراهيم ناجي، لقد اختارت جريدة اللوموند الفرنسية هذه الأغنية ضمن أفضل 100 عمل غنائي شهده العالم في القرن العشرين، وليس هذا بغريب على لحن صنعه السنباطي بروحه وبدمه ومن سلسلة مقامات، بدءاً بمقدمته الاستثنائية الفلسفية التي أبدع فيها أيما إبداع كما رأى ذلك الدكتور الباحث سعد الله آغا القلعة، إلى نقلات اللحن الجريئة انتهاء بقفلته الحراقة كما وصفها الموسيقار محمد عبد الوهاب.
ومع الأطلال هناك قصيدة ثانية تحولت بريشة السنباطي إلى أسطورة كما قال لي مرة الصحفي والمسرحي سامر محمد إسماعيل وهي (أشواق)، إن السنباطي الذي أعجز الملحنين عندما أدى هذه الأغنية بصوته، جاء كما (الأطلال) بتوليفة من المقامات الشرقية الصميمة وعبّر بصورة مدهشة عن الروح الصوفية والفلسفية العميقة في قصيدة مصطفى عبد الرحمن.
هناك اعتقاد سائد خاطئ أن السنباطي لم يرتقِ في ألحانه لمطربين آخرين إلى قممه التلحينية مع أم كلثوم، وهذا اعتقاد تدحضه المتابعة ومثال ذلك الحنين الأول لليلى مراد في أغنية (يا حبيب الروح) التي لحنها من مقام السوزناك، والذي وشى بخلفية السنباطي الدينية لأن هذا المقام هو المفضل عند قراء القرآن الكريم في مصر، حيث تفرد السنباطي في اللحن بالجمع بين آلات نفخية في المقدمة وأصوات الكورال النسائي لترديد الآهات بأسلوب رخيم.
هذه الروح الصوفية العميقة في أغنية عاطفية كررها السنباطي مع لحن لافت آخر لمطربة غير أم كلثوم، عندما غنت نور الهدى سلطان له (إن كنت ناسي أفكرك) من مقام الراست، ولقد أحسن إليها الموزعون عندما أضافوا الآهات على لحن الكوبليه، ليغدو العمل تحفة فنية خالدة ومدرسة حقيقية في الغناء والتلحين.
ومن مشيئة الأقدار أن بداية السنباطي مع التجديد كانت مع مطربة سورية، جعلت نهاية مشواره أيضاً مع مطربة سورية هي ميادة الحناوي، لقد اختارها لتغني له عمله الأخير “ساعة زمن” الذي وصفه بأنه (أصعب لحن وأمتع لحن، أجمل كلام ومعنى).
لقد لحن السنباطي نص حسين السيد وهو على فراش الموت وظل حتى اللحظة الأخيرة محتفظاً بروحه الوثابة وصلابته، لذلك نجده اعتصر اللحن من روحه لأن الكلام كان مصداقاً لكبرياء السنباطي واعتزازه الشديد بنفسه حتى وهو يموت:
“أنا حبيته أيوه، وأعرف طريقه فين..
لكن أروح له لا، جرحي بقالو سنين..
واسألوا كل اللي عرفوا الحب من قبلي وداقو..
عن عذاب القلب ما بين كبريائو واشتياقو”.