كخيمة وسط مدينة معاصرة!

علي الرّاعي
خيمة أولى
الكثير من الفعاليات الثقافية التي كان طابعها أهلياً صرفاً لم يُكتب لها الاستمرار، تماماً كما الكثير من الفعاليات التي كان طابعها رسمياً صرفاً، فقد كُتب لها بعدم الاستمرار أيضاً، وفي انقطاع الأمرين أسبابٌ وأسباب، لكن التعاون بين الجهتين، وإن كان لم يمنع انقطاع هذه الفعاليات، فهو على الأقل كان يُطيلُ في عمرها، ويُنوع في متلقيها والقائمين عليها تنظيماً، الأمر الذي كان يُغني على الدوام.. فهل عرفنا اليوم لماذا تُقام مهرجانات، سواء كانت أهلية أم رسمية، وكأن المسألة كمن يُقيم وليمة لنفسه؟
كيف نفسر إقامة مهرجان شعري في إحدى المحافظات قبل سنوات الحرب على سورية، ويُدعى إليه الشعراء من مختلف مشارق الأرض ومغاربها، لكن من دون أن يُدعى إليه شاعرٌ من المحافظة ذاتها، أو يُقام مهرجان مسرحي في محافظة تشارك فيه فرق المحافظات كلها، إلّا الفرق المسرحية في المحافظة نفسها!؟
لكن حتى لا نغرق في النصف الفارغ من الكأس، دعونا نعوم في نصفه الممتلئ، والتعويل على الملتقيات الأهلية التي قامت وزارة الثقافة بترخيصها خلال السنوات الثلاث الأخيرة علّها تُقدّم ثقافةً مُختلفة..
خيمة ثانية
صحيحٌ أن المجلات والصحف التي كانت تختصُ بالشعر لم تستمر، أو كانت تتوقف بعد مدة من إصدارها، غير أنه في كلّ فترة، أو بين فترة وأخرى تُصدر مجلة، أو صحيفة خاصة بالشعر والقصيدة، وبعد الحديث المزعوم عن رواج الرواية، صدرت مجلات في العالم العربي تختصُ بالرواية دون غيرها من الأجناس الأدبية الأخرى، وتبقى حالة إصدار الدوريات التي تعنى بالقصيدة تصدر بين فينةٍ وأخرى، سواء جاء الإصدار ورقياً، أو إلكترونياً، وحدها القصة القصيرة، بقيت ذلك الجنس، والأدب الضال، رغم أنها كانت يوماً المحرك للصفحات الثقافية لوقتٍ طويل، حتى المهرجانات التي تخصص للشعر والرواية، هي من الكثرة بأضعاف ما يُقام للقصة..
هل يأتي ذلك لآن القصة القصيرة، لا تزال الفن الأدبي الوحيد القابل للتجريب في العالم العربي، فيما الأجناس الأدبية الأخرى، قد وصلت إلى إتمام مشروعها ومنجزها الإبداعي، ومن ثم كان هذا الالتفات لإصدار ما يوثّق ويُتابع هذا المنجز؟! على الصعيد الشخصي أشكُّ في الأمر، وما الظاهرُ إلّا نوعٌ من أنواع (الموضة) الثقافية إلى حين!
خيمة ثالثة
بين المقلد والأصلي ثمة حكايات، وقصص، أحياناً قد يتفوق فيها المُقلد على الأصيل، على سبيل المثال في مجال الأغنية، فإن معظم من قلدهم جورج وسوف، أو بالأحرى غنى أغانيهم، كان -إلى حدٍّ بعيد– إن لم نقل تفوّق عليهم، فقد قدّم نتاجهم بالتنويعات التي اشتغل عليها، وبالإحساس العالي الذي ربما تفوّق على الأصل، وهكذا ضاهى صفوان بهلوان عندما غنّى نتاج محمد عبد الوهاب، باعتراف الأخير نفسه، وثمة الكثير من غنى لوديع الصافي وصباح وربما تجاوزهما، بما في ذلك الراحلة أم كلثوم، وحدها فيروز، بقيت عصيّةً على التقليد، أو على الأقل كان صعباً على المقلد تجاوزها، أو حتى مُضاهاتها، وهذا سر من أسرار الحالة الفيروزية، علماً أن ثمة أغاني لفيروز، لو غنتها فنانة من فنانات اليوم لكتبوا فيها ما كتبوا –لضعفها- ولن أذكر في هذا المجال أكثر من أغنية (على هدير البوسطة) كمثال على ذلك..!
خيمة رابعة
لا أحد يختلف على أن الشعر كان الجنس الأدبي الأقدم لدى العرب، حتى إن الشاعر زمن القبيلة العربية، كان يحتل الشخصية الثانية بعد زعيمها –القبيلة- هذا إن لم يكن الزعيم نفسه شاعراً، وهو غالباً ما يكون كذلك، ويكاد يكون شاعر القبيلة الذي هو فارسها في أحيانٍ كثيرة، وبمثابة وزير خارجيتها، ووزير إعلامها، وحتى وزير الثقافة فيها، ومن يومها بدأ الاهتمام الشديد بهذا الجنس الأدبي الذي كان يخدم السلاطين في معظم نتاجه، ولاسيما في مرحلة الدولة الإسلامية، وحتى بعد انهيارها إلى ممالك، ومع تشرذم هذه الممالك، كان الشعر والقصيدة العربية يتقهقران، وإذا كانت القصيدة العربية وصلت ذروتها مع المتنبي، فإنها بعد ذلك باتت تنعمُ في النظم وحسب، وليس الشعر العالي، حتى مجيء أصحاب الكلاسيكية الجديدة بداية القرن العشرين، غير أن هذه المرحلة كانت شبه منجز ضمن زمن وأفراد بعينهم، بمعنى؛ كان نتاجها شبه دائري، أتمت برحيل الشاعر نديم محمد وعمر أبو ريشة، وكان أن انتهى زمن القصيدة الكلاسيكية الموزونة العمودية، ومع فضاءات قصيدة التفعيلة، ومن ثم قصيدة النثر، تكون القصيدة الكلاسيكية قد استنفدت إيقاعاتها ومعظم جماليتها، مع ذلك فإن البعض لا يزال يصرُّ على تكرار الإفلاس ذاته مع كل قصيدة نظم، تماماً كمن يصر على السكن في خيمة بدوية وسط مدينة معاصرة..!

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار