في “حجر الصّفر”.. رضوان أبو غبرة وقصائد توثب بكنزاتٍ من عشب
علي الراعي:
“إذا كان الوجود منتهياً؛
فما الذي يسأل عنه الشعر
وما تلك الحاجة
لترميم العالم حبرياً ؟”
ذلك ما يسعى لتفسيره الشاعر السوري رضوان أبو غبرة، ويجيب عليه حبراً على البياض، ليس في مجموعته “حجر الصّفر” الصادرة عن دار أرواد بطرطوس وحسب، وإنما في مجمل تجربته الشعرية، التي تأتي المجموعة الأحدث، خامسة بعد أربع مجموعات شعرية؛ ففي عام 2006 كان أسمعنا “أصداء الوقت الأول” وفي سنة 2010؛ كان أن جعل لـ”الظلّ يضيفُ شيئاً”، وفي سنة 2014 انتظرنا معه “غداً أتماثل إلى الضوء” وفي سنة 2016 راقبنا معه أيضاً “الحظّ في مسيله”.
وأبو غبرة الذي يصيدُ القصيدة تماماً كإلهام ناسكٍ يضعُ قلبه بيده، وهو في رحلته يبتغي السفوح في سفره الشعري، يكتبُ الشاعرُ نصوصه التي أنجز ملامحها المُفارقة للكثير من نصوص وشعر المشهد السوري، وذلك بالكثير من الروابط والعرى الوثقى.. ذلك أنّ أبو غبرة اكتسب خصوصيته وأسلوبه الشعري، الذي سيظهرُ كتوقيعٍ في ذيل معاملة رسمية.
وفي “حجر الصفر” –أحدث ما صدر له من مجموعاتٍ شعرية- يُكملُ الشاعرُ سرد سيرته الشعرية متمثلاً ما بدأ به من ملامح لقصيدةٍ تسعى لتأخذ مكانها اللائق في ديوان الشعر السوري، بفعاليةٍ شعرية مميزة أكسبته أسلوبيته بين ثوابت ومتحولات في دفع القصيدة لتصل ذروتها في قمم البياض الشعري.
“لا تشبه سواها
تتدرج نازلةً إلى البحر ببنطالها الجينز
وكنزة العشب،
وتحت مداسها –هكذا يُخيّل لي– ترنح
كراسُ الزغب”.
(حجر الصفر)؛ التي تأتي ضمن تجربة يُنوّعُ من خلالها في شكل القصيدة وبنيتها، وحتى في شواغلها، فتارة تجنح للسرد الطويل مع الكثير من السرد العالي، حتى لتبدو كنهرٍ يجري في سهولٍ منبسطة، وحيناً تأتي قفزاً كوثبات غزالِ السفوح مفعمة بالمجاز متدفقة لدرجة لا تحتمل عنواناً، وإنما يختصره لأرقام، حيث تتناسلُ الومضات الشعرية بأرقامها التي تتعدد تحت عنوانٍ واحد، عنوان يأتي كملاط يربط بين مداميك القصيدة.. يبدأ ذلك من العتبة الأولى للمجموعة “حجر الصفر”؛ هذا الحجر الذي طالما شكّل لغير مبدع، وفي مختلف أجناس الإبداع مجالاً للتأويل ولاسيما بما يوحي بعلاقته بالأحجار الكريمة التي هي الأخرى تُشكلّ نبعاً لنصوصٍ مُفعمة بالرموز، الأمر الذي يجعل من اللعب بالكلمات حالةً ممكنة.
“قال صديقي الذي أحبّ:
الشعر؛ هو اللعب بالكلمات.
قلت: الشعر؛ هو المتاح
الذي يجعل اللعب بالكلمات حالة ممكنة”.
هذا من حيث الشكل النصي، أو علاقة النص مع البياض، أما من ناحية الفعالية الشعرية؛ فلا يبرحُ أبو غبرة حقولَ المجاز، مرةً ينزل إلى عمق آبار اللغة ليخرج أسرارها الدفينة، ومن ثم تذهبُ القصيدة صوبَ التأمل الطويل والبعيد، وتارةً يقطفُ أزهارَ القصيدة من أصيص حبق النافذة أو الشرفة حيث تصيرُ القصيدةُ يقين الأصابع. ولعلَّ أهمّ ما يُميز تجربة الشاعر أبو غبرة؛ هو قدرته على اقتناص اللمحة الشعرية، أو الفكرة، وصوغها بإيجازٍ وتكثيف، إضافة إلى مهارةٍ لافتة في بناء ما درج على تسميته النقاد؛ بالقصيدة الصورة.
“قمرٌ تُرابي
وعطرُ الخُطا
كلُّ ما يحتاجُ العاشقُ ليصل،
كان ذلك
في زمن النرجس”.
تبدو الفعالية الشعرية في هذه المجموعة أيضاً؛ في القدرة المُدهشة لـ” أبو غبرة “على إقامة علاقاتٍ جديدة بين الأشياء من خلال الاستخدامات المختلفة للمفردات، الأمر الذي يسمحُ للشاعر فضاءً أوسع للعبارة، وحراثة الكثير من حقول الاستعارة، حتى لتبدو الومضة الشعرية بحجم فيلمٍ سينمائي، ذلك ما يُركّز عليه الشاعر في هذه المشهدية التي يسعى إليها، وهنا غواية أخرى للقول الشعري بصياغةٍ وتكاوين جديدة يُراود الشاعر من خلالها قارئ قصيدته ومتلقيها.
“باكراً أخذني تقويم الندى،
وكان عليّ أن استأنف مسيل العشب
هكذا تدرجت رويداً رويداً
مازجاً أخضر الحظ بأخضر عينها
عيناها أصيص المكان”.