في رحاب إذاعة دمشق.. محمد غزاوي: الشغف محرك النجاح والضامن للاستمرارية والعطاء

حوار: بارعة جمعة

الأذنُ تعشقُ قبل العينِ أحياناً، فكانت عشقه الممزوج بحُب العمل والمُضي به إلى ما لا نهاية، متمسكاً بعراقة تاريخ العمل الإذاعي، مخلصاً لما قُدِّم له من تضحيات من كبار مؤسسيه، فغدا رمزاً من رموز الإبداع والفن الأصيل، متعشقاً لحن “حكم العدالة” وممارساً “محكمة الضمير” حفاظاً على نقاء ورونق العمل من الاندثار، مُتمرِّساً على أدوات امتزجت مع عظمة المكان، ومُشكِّلاً أيقونةً من أيقونات الدراما الإذاعية، خَطَّت طُرقاً واضحة، وأسست جيلاً مُحبَّاً ومخلصاً لها، فأصبح المخرج محمد غزاوي علامةً فارقةً في تاريخ الإذاعة السورية..

ظاهرة مميزة

ما بين حب المهنة وعشق المكان، بدأت قصتنا اليوم مع ملحمة فنية فريدة من نوعها حضوراً وتقديماً، ظاهرة حملت التميز، كما لإذاعة دمشق العريقة الحظ الأكبر في اكتنازها والحفاظ عليها، لتصبح العنوان الأعمق لفن الدراما الإذاعية، مرسخةً هويتها ورسالتها السامية، متعاقبة عبر الأجيال رغم كل التحديات.

ولأن ما يميز الدراما الإذاعية عن غيرها من أنواع الفنون هو اعتمادها بشكل رئيس على الصوت السفير الوحيد إلى آذان وقلوب المستمعين، كان لابدّ لها من اللجوء للبساطة والوضوح من دون الانسياق للتسطيح والطرح العادي، ما جعل من مبدأ التعاطي بوساطتها مع قضايا عدة، بوصلة الكثير من الفنانين والمخرجين كان أبرزهم المخرج غزاوي، فالعمل التلفزيوني اليوم بات مُكلفاً، لحاجته الماسَّة لكوادر وتمويل كبير يغطي نفقاته، بينما لا تتعدى تكلفة الإذاعة الـ٥%، من الميزانية المرهونة لها أمام التلفاز.

وهنا يمكننا القول إن ما يقوم عليه العمل الإذاعي هو حب المهنة والشغف بها بشكلٍ رئيس، وهو ما أكده غزاوي، نتيجة اندفاع الكثير من نجوم الدراما لتفضيل العمل الإذاعي على عروض مغرية قدمت لهم ضمن فترات.. ما يسوقنا للقول إن قدرة الاذاعة على التأثير في طلابها الأوائل كبيرة، ممن حفظوا العهد والوعد وكانوا على قدر المسؤولية.

اهتمام رسمي

وتحظى الأعمال الإذاعية بنصيب كبير من الدعم الحكومي، الذي ميزها عن غيرها من الإذاعات الشقيقة (القدس والقاهرة)، التي حفظت وفاءها ومحبتها للإنتاج السوري في المجال الإذاعي، وتبقى لأهل الخبرة كلمتهم الأولى والأخيرة، لذا لابدّ لأصحاب الموهبة والشغف للعمل الإذاعي من السعي وراء الحصول على شرف المشاركة بهذا الميدان المتفرد بأشخاصه وأعماله، فلا احتكار لهذه المهنة برأي غزاوي، الذي حثَّ الممثلين الجُدُد على شحن طاقاتهم وأدواتهم، بما يجعلهم الخيار الوحيد للمخرج، الذي يسعى دائماً لإنجاح العمل القائم بشكل رئيس على الممثل إلى جانب السيناريو والكاتب أيضاً.

فالاتجاه اليوم هو لدعم الشباب المميز، القادر على خلق الفرصة التي ستأتي لامحالة، وإن تأخرت، كما أن الوصول إلى مرحلة القبول والمشاركة ضمن أعمال إذاعية هي الهدف الأسمى للمخرج محمد غزاوي، والذي يترجمه التعاون القائم بين المخرجين وإدارة التمثيليات في الإذاعة، في حين أن نجاح الأعمال ليس مستحيلاً، إنما نتاج التدريب المتواصل على استحضار حالات عدة، وتطعيمها بالصوت المناسب لها، لاعتماد الأداء بالدرجة الأولى على قدرات الممثل، والتي من غير الممكن الحصول عليها بالتزكية أو عن طريق تقديم شخص على شخص آخر لاعتبارات محددة، فالأداء العملي هو الحَكم الأول والأخير على مهارة المتقدم.

شروط فنية

والغريب لجوء البعض لتعميم مبدأ نجومية شخص على أنواع عدَّة من الأداء الدرامي، حيث أنه لا يشترط نجاح ممثل في التلفزيون نجاحه بالإذاعة، والعكس صحيح، فلكل مكان شروطه برأي غزاوي، ما يفرض على الممثل الإذاعي تقديم حالات وانطباعات متنوعة بين الفرح والحزن واللاوعي، ما يتطلب منه تدريبات إذاعية مركزة، ليأتي بعده تطويع الجسد أمام الكاميرا، والذي يضيف إليه مهارات إضافية، وهنا يمكننا القول إن الإذاعة هي الانطلاقة الأقوى لأي فنان حسب تأكيدات غزاوي..

والمثير للدهشة هو انطلاق البعض من مفهوم الممثل الواحد في الدراما الإذاعية، واختصارها بفن “المونودراما” القائم على شخص بعينه، من دون النظر لطبيعة العمل الإذاعي القائم على فريق عمل كامل، ولكل عنصر حيويته وألقه الخاص به.. ولطغيان هذا النوع ضمن الدراما الإذاعية أثره في حرمان الفريق من فرص العمل برأي غزاوي، لكونها جزءاً من العمل الدرامي وليست ثابتة، ويتم اللجوء إليها حسب الحاجة، التي ظهرت في كثير من الأحيان لمعالجة الأزمات المختلفة والمحيطة بالمواطن، واعتمد غزاوي شرطه الأساسي لقبول فكرتها، بعدم اعتمادها كفن رئيس في العمل..

في حين أن للاتزان والانضباط في طرح قضايا مؤثرة بقيم المجتمع، دورها الأكبر في ضبط ما يتم تقديمه عبر الإذاعة، لكونها الوسيلة السهلة والمسموعة ضمن الظروف الحالية، ما يفرض على صناع الدراما الإذاعية من كتاب نص وسيناريو محاكاة قضايا الواقع بشفافية وعمق وقوة، بما يتلاءم مع ظروف الشارع السوري، المتأثرة بفعل التغييرات الحاصلة على واقعه اليومي، والتي تحتّم على الإذاعة العمل بالتعاون مع الإعلام القائم على التأثير، ما يؤكد حتمية الحفاظ على واقعية العمل، المستمد من قصص يومية تعج بها الحياة، والبعد عن التقليد الأعمى للمجتمع الغربي، تفادياً لوقوعنا بفخ التزييف والبعد عن الحقيقة، ما يعده الجمهور ضرباً من الخيال، يُفقد هذا المنبر مصداقيته التي لازمته لسنوات ضمن أعمال منوعة برامجية ومسلسلات وزوايا، قدمت الكثير من القصص اليومية التي تجسدت في “صابر وصبرية” للفنان حكمت محسن والتي انفردت بقضايا مدينة دمشق.

وانطلاقاً من الحفاظ على الهوية الإذاعية للأعمال المقدمة، احتفظ كتّاب ومخرجو الدراما الإذاعية بمفردات خاصة بهم، تقوم على توعية المجتمع بطرح جريء وملامسة القضايا بموضوعية ومن ثم اقتراح الحلول، إلّا أن ذلك غير كافٍ برأي المخرج غزاوي، بل يحتاج خطوات مساعدة لها ومساهمة أشخاص آخرين، داعياً الجميع للاستمرارية والعطاء المرتبط بتاريخ العمل الإذاعي، بما يرقى مع مستوى الإنجازات المحققة لدى الدراما الإذاعية على المستويات كافة.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار