سرجون كرم يحتضن رجل ثلج يحترق!

زيد قطريب:

يحاول الشاعر سرجون كرم في كتابه الجديد “سمكري الهواء.. العليم بكل شيء” الصادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، إنجاز خصوصيته في الكتابة الشعرية، في وقت يقول فيه النقاد بانحسار الشعر أو انسلاخ جلده ليرتدي معاطف من فنون أخرى تنقذه من الترجل عن صدارة الفنون.

عبء ثقيل من الأسئلة يحمله سرجون، يتصل الجانب الأول منه بذاته وخبراته الشخصية، أما الثاني فيتصاعد إلى الوجود والحياة الإنسانية.

سنعثر دائماً على ذلك الخيط الشفاف الذي لا يشاء قطع الصلة بين مكونات نشأته الأولى، ولكونه أستاذاً للغة العربية والأدب العربي والترجمة في قسم الدراسات الشرقية والآسيوية الاستشراقي التابع لجامعة بون الألمانية.

فالتفاعل مع الثقافات الأخرى سيؤثر في تناول العناوين ليجعل اللغة أكثر مضاءً والصورة متعددة في الاحتمال، في هذا الفضاء، يتعدّد الشاعر في التقنيات والعناوين، لكنه لا يتبدّد.. يتمرد على الكلاسيكيات، ويحرص على أن يبقى محكوماً بالجمال.. في هذه العملية المعقدة، تظهر العبارات باسلةً عذبة تحترق مثل رجل ثلج لكنها لا تذوب:

“أنتظرك كعادتي هنا..

محتضناً رجل ثلج في داخلي

نصف حي من الموت..

ونصف ميت من الغرام”

ولأن الصورة حامل القصيدة الأهم، ينحت سرجون خيالاته في الصخر كي تدوم أبد الدهر، وبالفعل ينجح في اقتفاء أبديته الخاصة عندما يقول: “قبل أن تطلّي بجهازك العصبي” أو “طالما أنني أشم الكلمات.. لا يمكنني أن أسمعك” و”أحمل دلو الأرض.. وأرشّ على سطوح العالم قاعي”.

الصور هنا مفاجئة وجديدة، وهي نتاج تلك العذوبة التي قلنا إنها خلاصة الخبرات، ورغم أن سرجون عاش معظم سنيَّه في الغربة، إلّا أنه لم يمكن “برمائياً يتنفس من خياشيم الغربة” ولم يتبنَّ حكمة “الناظر للحياة من ثقب تابوتٍ في مقبرة” فهو الباحث أبداً عن صفاء الأوكسجين، حتى عندما يضيق العالم ويبدو مخنوقاً بفعل الأكسدة والصديد الذي ينزّ من الأشلاء:

“هذه القصيدة متهورة

مثل مغامر اكتشف مغارة الكنز..

سحب قطعة منه، فانهار السقف عليه”

لا شعر من دون صورة، ولا يكفي الإنشاء لصناعة نص يعبُر ولا يغيب، ينفذ ولا يتلاشى. معادلة خطيرة مخاتلة قد تلبس على الهواة حديثي التجارب، لكنها عند سرجون كرم، تعرف طريقها جيداً فلا تضلّ أن يتم تهجينها، لأنها متصلة بالخيط الشفيف الشفاف الذي قلنا إنه يربط نشأته الأولى بما صار عليه لاحقاً عندما أطل على الثقافات العالمية، ودرّس في الجامعات واحتك بجميع أنواع الناس.

في كل هذا، يبدو الشاعر واثقاً مستقراً رزيناً وهو يستمع إلى “طرطقة” السمكري وهو يضرب على المعادن كي يصنع للهواء بيتاً، فالضجيج هنا عابر لا يلغي متعة التأمل والاستمتاع بالخلاصات الحاسمة التي لا شك فيها:

“أيتها الحياة..

قولي لي شكراً..

قولي شكراً للطرقات التي رصفْتِها.. كي تريني”

رغم المهارة وحُسن العبور في قصائد سرجون كرم، إلّا أنني وددتُ لو لم يفتتح كتابه بقصيدة “للمنبوذين” أو لو أنه حذفها مع عدة من مثيلاتها لأنها تغرد خارج سرب التجربة الذي اشتغل عليها في بقية الديوان، ويصح ذلك أيضاً على قصيدة “أحب حكايتي كما هي”، فهو يقول في فاتحة “للمنبوذين”: “دعوني أكتب الشعر باللغة العادية” لكن ذلك سلب النص حضور الصورة المدهشة التي قلنا إنها عماد الكتابة وصاحبة القول الفصل في الاحتفاء بالقصيدة.

الأمر يبدو مفهوماً بالنسبة لسرجون، وخاصة عندما يرتفع منسوب الانفعال والغضب من قضايا بعينها، حيث يحضر هذا الأسلوب كردة فعل ربما.

يتصاعد الخط البياني في الكتاب، وتبقى الصورة ملكة يتوجها سرجون فوق المعاني، كأنه ينزف وحيداً وراء شطآن الأطلسي والبحور الغريبة.. لكن جدولاً صغيراً في بلاده جعله يعود، جدول يحلم بتحويله إلى نهر متسع الضفاف، فالشاعر مسكون أبداً في هاجس الجريان:

“لأنني هشّ مثل أمنية..

تنتظر الصلاة كي تصير”

إنها العذوبة لا تبطّل ينابيعها عن الانبجاس، في الهدأة والحزن والتواصل مع ورطة الكون المجنون. يبقى الشاعر كلّاً مستقلاً وفي الوقت نفسه جزءاً من الكلّ:

“أنظر كالأحْوَل إلى نقطة العرق المعلقة على أنفي

مثل أرواح البشر المعلقة كالدعاء..

بين الأرض والسماء”

لا يتوقف سرجون عن مبارزة الصورة، فمرة ينتصر عليها، وأخرى تنتصر عليه.. إنها حربُ مشروعية الوجود بينهما التي تتم باتفاق ضمني على ألّا يكون هناك قاتلٌ.. ولا قتيل:

“هؤلاء هم القادرون على النوم بسلام..

مثل طلقة ترقد في فوهة المسدس”.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار