عبد اللطيف محرز وعجينة من خمسة شعراء العربية

راوية زاهر

«الشعر والحياة»، كتاب للشاعر عبد اللطيف محرز، صادر عن الهيئة العامة السورية للكتاب.. وهو من الدراسات البحثية الماتعة، التي تأتي من أهمية الشعراء الخمسة الذين أحاطتهم الدراسة بعمق وجودهم الفكري وشعرهم ونظرتهم للحياة…

يتوزع الكتاب على قسمين.. القسم الأوّل: في المسيرة الشعرية للشعراء: “المتنبي المعري، بدوي الجبل، نديم محمد، وإيليا أبو ماضي.”.. أما القسم الثاني فكان في بحوث نظرية مكثفة عن الشعر بفصول ثلاثة.. فالمتنبي (شاعر الفلاسفة) ممثلاً طموح الأمة العربية وعنفوانها.. وفي مزاوجة مع المعري (فيلسوف الشعراء) ممثلاً العقلية الواعية لهذه الأمة، وقد جمعهما المؤلف في دراسة واحدة لما يربطهما فكرياً وتاريخياً، فهما وليدا حقبة تاريخية واحدة يسودها التمزق والتفكك الاجتماعي، وتحوطهما الكثير من الخيبات والنكبات.. وقد جمع بين المتنبي والمعري النسب فقد كان المتنبي يمني الأصل، والمعري تنوخي من معرة النعمان، وكذلك جمع بينهما الإبداع والنظرة التشاؤمية والحكمة الاجتماعية والنظرة الفلسفية..

حمل المتنبي مشروعه السياسي، وحاول استنهاض العرب كي يتخلصوا من العناصر الأجنبية، وقضى حياته متنقلاً، وكما قيل: «كمن تحته ريح» يجوب الآفاق باحثاً عن أحلامه المسافرة، مابين الكوفة المشبعة برائحة الدماء والثورة، والدولة الحمدانية في حلب والتنوخيين في اللاذقية الذي جمعه حبه لهم مع البدوي والمعري، وصولاً إلى الأخشيدين في مصر، وحلمه العروبي الذي تكسّر على مضارب حمص وحلب ومصر، ناهيك بقلبه الذي تحطمّ عشقاً على أبواب خولة الحمدانية.

أما المعري فقد اختلفت بيئته وطريقته عن المتنبي بحكم فقدانه البصر، واقتصرت رحلاته على حلب والمنطقة الساحلية وأخرى إلى بغداد، اعتزل بعدها اعتزالاً أبدياً ليطلق عليه لقبه المعروف (رهين المحبسين) كتب ديوانه (سِقط الزند) متأثراً فيه بالمتنبي و(اللزوميات) كتاب في الشعر الفلسفي و(رسالة الغفران) مسترشداً بالعقل.. وقد كانت له آراؤه السياسية (الحاكمون في تخمة والناس جوعى) كما فضح رجال الدين وانتقد التفاوت الطبقي، وكذلك كانت له نظرته التشاؤمية التي مالت إلى العدمية أحياناً وخاصة في موقفه من النسل والإنجاب.. وقد أوصى أن يكتب هذا البيت الشعري على قبره: “هذا ماجناه أبي عليّ وماجنيتُ على أحد.”، وفي موقع آخر قال:

تعبٌ كلها الحياة فما أعجبُ

إلّا من راغبٍ في ازدياد.

أما المتنبي فبلغت نظرته التشاؤمية بعد سجنه في حمص وخيبته وهجائه لكافور الاخشيدي وضياع حلمه في حلب:

نامت نواطير مصر عن ثعالبها

وقد بشمن وما تفنى العناقيد

أما بدوي الجبل عاشق الشام، وكانت في ناظريه حورية من لحم ودم، تصوّف من أجلها وقال الكثير من الشعر في قائد ميسلونها وبردى، وكانت بيت قصيده في بواكير حياته.. كما أحبّ مي زيادة وقال فيها شعراً.. وكان له في شقراء سويسرا قصائد عصماء، أما سمراء لبنان وقد رافقته في غربته، وبقيت معه إلى آخر حياته مجمرة صوفية، وقد انتقل في حبها من أحاسيس الجسد إلى صبوات الحب الروحي في إطاره الجمالي الإلهي.. وقد ظهر التصوف عند البدوي متأثراً بوالده المتصوف العالم، فالروح في السماء، والجسد من التراب، والجسم آثم والروح بتول، وتعذيب الجسد يساعد الروح على التحرر.. وأما الشاعر نديم محمد؛ فقد عاش متنقلاً بين جبلة واللاذقية، ولبنان وفرنسا ثمّ استقر في طرطوس، وقد خابت أمانيه في كل مكان، فعاقر الخيبات خيبة تلو خيبة، لم يكن عذرياّ في عشقه وله مغامرته، تنقّل في عمله الوظيفي، وعاش مأساته الكبرى مع المرض، وكل ذلك لم يقف دون وطنيته وهمه العروبي، إذ قال قصيدته في شهداء أيار، فنديم محمد خُلِق للحب والثورة على عكس بدوي الجبل الذي ابتعد عن الأحزاب.. وقد قال نديم محمد محرضاً على الثورة:

لمّوا الضمير عن القمامة وافرشوه على الغيوم

كبّوا خيانات الملوك إلى قرارات الجحيم.

وقد بلغ في ديوانه (آلام) ذروة الأوجاع، فعبّر عنها بلغة انفعالية غاية في الإبداع والفن لا تخلو من التناقضات حتى أطلق على نفسه عجينة النقيضين.. ونختم مع الشاعر إيليا أبو ماضي متأرجحاً بين الوطن والمهجر، وما أثاره شعره في شؤون الحياة في المجالات عامة وبإطارات فكرية ذات آفاق تقدمية واسعة ومنطلقات فلسفية ذات أبعاد إنسانية واعدة، مع الحنين للوطن والأفكار الدينية والفلسفية عن الحياة والوطن وتحرره الاجتماعي قال الكثير من الأشعار معبراً عن أناه..

يأبى فؤادي أن يميل إلى الأذى

حبّ الأذية من طباع العقرب

والشعر عند أبي ماضي ليس نفحة إلهية وليس نفثة شيطانية؛ بل هو خمرة إنسانية، فأبو ماضي مفكرٌ تأملي خالص، وكان للشام عنده كما عند البدوي حصة كبيرة في شعره، وقد لمس المؤلف تشاؤم أبي ماضي برغم ميله المطلق في الشعر إلى التفاؤل، وما ذلك إلّا رغبة منه في إبعاد مشاعر الحزن عن الآخر، ويبقى الجواب لكل الأسئلة المتعلقة بطلاسم هذا الشاعر الفلسفي (لست أدري)، ويختم المؤلف دراسته الرشيقة والقيمة في الحديث عن الشعر ومهماته والتزاماته مؤمناً أن التربية لا تصنع شاعراً، فالشاعر يمتلك الموهبة الشعرية بالفطرة وليس اكتساباً، والمعاناة تجعلها عفوية صادقة وبسيطة وواضحة..

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار