صيانة روحية 

لا يني كلُّ ما نعمّره أو نستخدمه، كما أتاحت الطبيعة بأحضانها الواسعة وراحتيها السخيّتين، يحتاج إلى صيانة: الأرض والغابات والشواطئ والينابيع والمناجم وما بعدَها من القصور والبيوت والطرقات والبساتين والمزارع والمعامل والآلات والملابس والبدن! فإن الصيانة هي فعل البناء المستمرّ بلا نهاية، ولا قيمة للتشطيب النهائي إذا حصل، إلّا في تركِه كلَّ شيء رهن الخراب البطيء ثم البدَد!

الكتب المتروكة على الرفوف طوال سنوات التهجير تحتاج إزالة طبقات الغبار والهباب الأسود عنها! هي أيضاً تحتاج التنفس مثل الأحياء التي نجت من الحرب! تنزل عن الرفّ دون أن تنضو ذلك السواد السميك إلا بمماسح مبللة بماء نظيف، لكن روايةً من خمسمئة صفحة تخلع غلافها وتتساقط منها “ملازم” كاملة، ثم ينخلع من بعضها ورقٌ متمرد ويتناثر على الأرض، ولطالما أطلقت لغضبي العنان: لماذا تتهاون دارُ نشر في صناعة كتاب يقاوم التنقُّل بين الأيدي؟ لماذا لا تشدُّ الورق بخياطة متينة وهي تعلم أنه مخلوق للحياة بكل ظروفها؟ أترك الرواية جانباً لأنها تحتاج صيانة، وصائنها يجب أن يكون خبيراً في اللصق والتجليد، مثله مثل عمال الصيانة في كل مجال! وقبل أن أنتهي من فوضى نزول وطلوع الكتب وتعود المكتبة إلى حيويتها وإشراقها، أعثر على موسوعة حكائية لإحدى ثقافات الشرق، وأتوقف طويلاً، في استراحة غير منتظَرة، عند غلافها المرسوم بريشة أحد فنانيها جامعاً تاريخ وروح شعبه في الألوان والخطوط والمنمنمات، وتهب عليّ نسائم قوية من أيام وليالي سهر قضيتها مع هذه الحكايات، لذلك أضعها بدافع غامض قرب الرواية المفككة أوراقها!

في فرحة العودة للكتاب الورقي أجد الحكايات غيرَ ما تركتُها عليه! تبدو واحدةً أخرى لم ألحظ فيها ذلك العمق وشدةَ الرهافة وكأن نصال المؤلفين سُنّت في غيابي عنها! حصل أنني جمّعت خلال سنوات معارف أخرى معاصرة عن هذا الشعب المبدع، وذُكرت على مسمعي أسماء الكثير من مدنه في أخبار صراعه مع القوى الرأسمالية المتوحشة، ومرّت بي نقاشات عن السينما الفذة التي ينتجها والعلماء الذين تلاحقهم استخبارات العدو بقصد الاغتيال واللغة التي باتت الشعوب الأخرى تسعى لتعلمها، لذلك كانت قراءتي الثانية مختلفة، لأن الحكايات نفسها لم يتغير فيها حرفٌ واحد! وعلى هذا القياس أيقنت أن كلّ كتب الرفوف لا تحتمل القراءة الثانية فحسب بل تستوجبها، لأن كلّ قراءة تردم فجوات لا يراها القارئ، ليس بسبب الاستعجال والظروف الآنية، بل بسبب تطور الوعي وعمقه وإذ بقيت الرواية بانتظار الصيانة، شعرت أن معارفنا الروحية نفسها تحتاج صيانة هي الأخرى حتى لا تتحول إلى ما يشبه الرُّقم المسمارية الجامدة، لا تعرف التنفس ولا تقوى على مغادرة المتاحف!.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار