الرأسمالية تعضّ بطنها .. أوروبا وأميركا نحو فقدان أمنهما الغذائي

مها سلطان:

أن تكون الأنظمة الرأسمالية مهددةً بأمنها الغذائي فهذه «من علائم الساعة» إذا جاز لنا التعبير.. و«علائم الساعة» هذه تعني أن العالم بأجمعه مُقبل على ما لا تُحمد عقباه، تبعاً للمسار الذي ستعتمده هذه الدول لاستعادة أمنها الغذائي، ومعه نفوذها العالمي الذي توشك على فقدانه لمصلحة «العالم الموازي» الذي بات اليوم هو الوحيد المحمي من شبح انعدام الأمن الغذائي، وتالياً هو الذي سينجو من شبح مجاعة عالمية بات الجميع يُعلي الصوت بالصراخ من أنها باتت تدق الأبواب.

في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، خصوصاً في النصف الثاني منه، أيّ عندما بدأت المنظمات الأممية، ولا سيما الإنسانية والحقوقية، تضع برامجها العالمية، وتصدر تقاريرها بشأن الأحداث والتطورات والاضطرابات العالمية وتداعياتها، منذ ذلك الوقت لم تتوقف التحذيرات من أزمات نقص الغذاء والجوع التي تضرب العديد من الدول، لأن الرأسمالية بقدر ما حققت ثراء فاحشاً لبلدانها ، جلبت الفقر والدمار لغيرها. أطماع الرأسمالية لم تتوقف وهذا قاد إلى أن حروبها لم تتوقف. هذه الحروب هي التي تجلب لها الثراء والرفاه، لذلك ودائماً عندما كانت تُطلق التحذيرات من أزمات غذائية ومجاعات تهدد الدول (والعالم) فإن هذا العالم كان مُستثنى منه العالم الرأسمالي.
ليس بالضرورة أن يكون العالم الرأسمالي معنياً بصرخات الجوع ، إذا كانت المنظمات الأممية هي من يُطلقها. صحيح أن الدول الرأسمالية من مُؤسسيها ومُموليها ،لكنها لطالما عملت بعيداً عنها، بل وسخّرتها لمصالحها وأطماعها.
أياً يكن.. فإن الحديث اليوم ليس عن الأمم المتحدة ومنظماتها وأهدافها ودورها وهل نجحت في تحقيق مهامها التي أسست من أجلها، في إرساء السلام والأمن العالميين، أم لا؟.. وليس الحديث عن أزمات الغذاء والمجاعة في الدول نفسها التي طالما كانت هدفاً للرأسمالية التي نهبت على مدى عقود ثرواتها وخيراتها.. في إفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية.
الحديث اليوم هو عن الرأسمالية الغربية، بوجهيها الأميركي والأوروبي، التي باتت مهددةً بفقدان أمنها الغذائي، وتالياً مهددة بالجوع تماماً مثلها مثل الدول التي كانت السبب في أزماتها الغذائية ونشر الفوضى والاضطرابات فيها.
* على المحك
المفارقة ليست في هذه النقطة فقط ، بل في أن الرأسمالية لن تستطيع حل أزمتها اليوم إلا من حساب نفسها.. كما تفعل الرأسمالية الأميركية اليوم بالرأسمالية الأوروبية فيما يخص حرب أوكرانيا. الأوروبيون هم من يصرخون اليوم من أنهم مقبلون على «كارثة غذائية» لا سبيل إلى حلها إلا بالاتفاق مع الخصوم، أي مع العالم الموازي، روسيا والصين، وليس مع الولايات المتحدة. (تقارير اقتصادية بريطانية أكدت أن العقوبات على روسيا أفرغت خزائن الأوروبيين وقلبت حساباتهم رأساً على عقب، حتى إن الاتحاد الأوروبي بحاجة اليوم لمراجعة ميزانيته قبل تسع سنوات أبكر مما كان مخططاً له)
الولايات المتحدة ليست في حال أفضل، لكنها تستطيع «الصمود» قليلاً قبل أن تجاهر بالكارثة.. وهنا علينا ترقب ما بعد ذلك وكيف ستتصرف لرد الكارثة؟.. (المجلس الاحتياطي الفيدرالي أكد أن الاقتصاد الأميركي سيسجل نمواً سلبياً للربع الثاني على التوالي ما يعني بالتعريف الرسمي أنه سيكون في حالة ركود فعلي)
بالنسبة للخبراء الاقتصاديين، فإن الولايات المتحدة بدأت تتصرف قبل المجاهرة بالكارثة.. لقد سعت ما أمكنها لتحويل حرب أوكرانيا إلى أزمة عالمية، أولاً من خلال تحميل روسيا كامل المسؤولية عن وصول أزمة الغذاء العالمية إلى حافات المحاعة، وثانياً من خلال وضع الرأسمالية الأوروبية في “بوز” المدفع، في مواجهة روسيا. هذا أشبه بمن يَعُض ذيله. الرأسمالية الأميركية تعُض الرأسمالية الأوروبية لتنقذ نفسها.
هذه ليست المرة الأولى التي تفعل فيها الرأسمالية الأميركية ذلك. لنتذكر شعار ترامب «أميركا أولاً» وكيف كانت بداية نكبات الأوروبيين على يد حليفهم الرأسمالي الأميركي، حينها قيل إن الرأسمالية العالمية (بنسختها النيوليبرالية المتوحشة) تعضُّ نفسها، أو ذيلها (لا فرق). ومنذ ذلك الحين بدأ سُمَّها ينتشر في جسدها، لتظهر مُقسمة مشرذمة، حتى وصلت إلى ما هي عليه من ضعف فيما يخص حرب أوكرانيا.
اليوم كلتا الرأسماليتين، الأميركية والأوروبية، تواجه المصير القاتم نفسه، ولكنهما ليستا موحدتين، حتى في مواجهة فقدان الأمن الغذائي. الرأسمالية الأميركية تأمر، والأوروبية تطيع. ولكن ماذا ستفعل الأولى عندما تستنفد الثانية كل طاقاتها؟ من هنا تتصاعد المخاوف بدرجة كبيرة. ليس حيال أزمة الغذاء العالمية فقط ، بل حيال الرأسمالية الأميركية وخياراتها. كثيرون حول العالم يشبهون الظروف العالمية الاقتصادية الحالية بما كانت عليه قبل الحرب العالمية الثانية.. فهل نسير نحو حرب عالمية ثالثة؟
ربما

وربما لا.. وهذه الـ «لا» مرتبطة بأمرين: الأول في حال حققت الولايات المتحدة أهدافها في تحويل أوكرانيا إلى أزمة عالمية، والثاني في حال نحج العالم الموازي في حسم الموقف لمصلحته، حيث لن يكون أمام الولايات المتحدة سوى الرضوخ والتفاوض على عالم متعدد الأقطاب.
هذا الحال لن يتحقق عاجلاً، قد يحتاج عقداً من الزمن أو أكثر، وحتى ذلك الحين، فإن أزمات الغذاء والجوع ستتفاقم، وإذا بقيت من دون حلول، فإن العالم في مواجهة مزيدٍ من الاضطرابات والصراعات، التي ستكون بمنزلة حربٍ عالمية ثالثة، أطرافها الأقطاب العالمية الحالية، ولكن ليس على أراضيها كما كان حال الحربين العالميتين الأولى والثانية.
* سلال الغذاء العالمية
لنلاحظ أن الدول التي تعاني أزمات نقص الغذاء والمجاعة، والدول المهددة أو المرشحة لتعاني أزمات غذاء ومجاعة، هي من توصف بأنها «سلال الغذاء العالمية» ولا سيما الإفريقية، فكيف يحدث أن تكون في مثل هذا الحال المتناقض؟
طبعاً كل سؤال من هذا النوع لا بدّ من أن يُعيدنا إلى الرأسمالية وما مارسته من توحشٍ في نهب ثروات هذه الدول وخيراتها.
اليوم ظهر في مواجهتها العالم الموازي، روسيا والصين، الذي يريد مساعدة هذه الدول على التعافي والنهوض، وعلى أساس المصالح والفوائد المشتركة، فكان لا بد من الصدام مع الرأسمالية، هذا الصدام الذي لم يتوقف فقط عند حدود تلك الدول، حتى وصل اليوم إلى أوكرانيا.
* لماذا روسيا؟
منذ عقودٍ لم تتوقف التحذيرات التي تطلقها المنظمات الدولية والخبراء الاقتصاديون، عن أزمات الغذاء والدول المهددة بالمجاعات، لكنها تحذيرات لم تكن لتتجاوز جدران الغرف التي تطلق منها، فما الذي تغير حتى باتت هذه التحذيرات على كل لسان حول العالم، وبات الرأسماليون في مقدمة من يطلقونها.. وهل تتحمل روسيا مسؤولية في ذلك؟
قبل الإجابة لنلاحظ أنه:
– كل الدول تقريباً، الإفريقية والشرق أوسطية، ودول في أميركا اللاتينية.. كلها تحجم عن الوقوف في صف أميركا في مواجهة روسيا، وكلها ترفض تحميل روسيا وعمليتها في أوكرانيا المسؤولية عن تفاقم أزمة الغذاء العالمية.
– قبل حرب أوكرانيا وباعتراف كبار الاقتصاديين حول العالم، فإن العام الحالي 2022 كان من المتوقع له أن يكون أكثر الأعوام ارتفاعاً في أسعار المواد الغذائية وأكثرها نقصاً في الغذاء، وأوسعها لناحية اتساع دائرة الجوع الشديد لتمتد إلى أجزاء كثيرة من العالم، لأنه في هذا العام ستكون التداعيات الكارثية لمختلف الاضطرابات والصراعات والحروب حول العالم قد وصلت إلى خواتيمها ولا سبيل لردها، مُضافاً إليها الزلازل والخضات الاقتصادية التي هزت العالم منذ بداية هذه الألفية، أكثر من مرة، وقادت إلى سياسات اقتصادية أكثر إقصائيةً وأكثر انعزاليةً، أبرزها الحمائية التجارية، ونظام العقوبات الذي تفرضه الولايات المتحدة على الدول، والذي توسع بصورة متوحشة خلال العقد الماضي، وبلغ ذروته مع روسيا والصين، ما أثر بشكل كبير في مسارات التجارة العالمية وسلاسل التوريد.. ثم جاءت جائحة كورونا لتزيد الطين بلةً بإجراءات أكثر حمائيةً وانعزاليةً، حتى باتت كل دولة منغلقة على نفسها.. وبات الملايين عاطلين عن العمل.
منذ عقد تقريباً تتصاعد أزمة الغذاء حول العالم مع تشديد الدول الكبرى (والغنية عموماً) ما يسمّى (سياسة الأسواق المغلقة) من خلال فرض المزيد من القيود على تصدير موادها الغذائية، ولاسيما المحاصيل الحيوية الاستراتيحية مثل الحبوب، في سعي منها إلى إبقاء هذه المواد داخلها، وهي تفعل ذلك – كما تقول – تحسباً لاحتمالات أن يطول الصراع بين الولايات المتحدة وكل من روسيا والصين، ولاحتمالات أن يتحول إلى حرب عالمية ربما، وحرب أوكرانيا هي البداية.
– قبل حرب أوكرانيا كانت هناك قضية المناخ والاحتباس الحراري، وما قاد إليه من موجات جفاف ونقص في المياه انعكست بصورة كارثية على المحاصيل الزراعيةـ وتالياً اتسعت دائرة نقص الغذاء لتشمل حتى الدول التي كان لديها ما يكفي ويزيد.
– خلال العقدين الماضيين، كان هناك حربان مباشرتان شنتهما الرأسمالية الأميركية / الأوروبية، على كل من أفغانستان والعراق، وحروب غير مباشرة على قاعدة ما يسمى «الربيع العربي» والحرب الإر*ها*بية التي تقودها ضد سورية.. وهناك أيضاً الحروب التجارية التي تفتعلها مع نصف العالم وفيه دول كبرى كالصين لها دورها الكبير والمؤثر في عملية الأمن الغذائي العالمي.

هذا وغيره كثير مما كان قبل حرب أوكرانيا، أي إن النظام الغذائي العالمي كان متوتراً في الأساس. لنذكر هنا، أن روسيا تعلن يومياً أنها على استعداد لتحمل مسؤولياتها كاملةً في مواجهة أزمة الغذاء العالمية. وزير الخارجية سيرغي لافروف أعلن مراراً أن بلاده مستعدة لحماية السفن المحملة بالحبوب من موانئ أوكرانيا، ومستعدة لإجراء محادثات مع كييف بشأن إقامة ممر آمن لنقلها..

متهماً الغرب بمحاولة «تحويل أزمة الحبوب الأوكرانية إلى كارثة عالمية» مشيراً إلى أن كمية الحبوب العالقة في الموانئ الأوكرانية لا تمثل سوى 1% فقط من الحبوب المصدرة.
وسبق للرئيس فلاديمير بوتين أن عرض مسارات بديلة لتصدير الحبوب الأوكرانية عبر الموانئ الخاضعة لسيطرة روسيا في بحر أزوف والبحر الأسود.. وعبر نهر الدانوب والطرق البرية إلى موانئ رومانيا على البحر الأسود.. وعبر بولندا بسكك الحديد إلى موانئ بحر البلطيق.. وعبر بيلاروس إلى ليتوانيا.. وحتى عبر موانئ أوكرانيا في حال قيامها بإزالة الألغام من مياهها.

** عالم مختلف
لكن الرأسمالية الغربية تصمُّ أذنيها عن كل ذلك، وتريد من كل العالم أن يفعل الأمر ذاته.. لكن هذا الأمر لم يعد في متناول يدها. بات للعالم رأي مختلف يعلنه ويعتمده في سياساته، وهو أن هذه الرأسمالية تتحمل مسؤولية كل مصائبه.. ولا بدّ من مواجهتها.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار