أزرق السماء والماء وأرجواني الفخامة.. سيماهم في ألوانهم!

هدى قدور:

بدءاً من اللون الأزرق الذي يزين بوابة عشتار، إلى الأرجواني اللغز أو لون الملوك الفينيقي، تستطيع الألوان اختصار الثقافة والروحية السائدة في الحضارات القديمة. فالأزرق حير العلماء فترة طويلة من الزمن نتيجة مقاومته عوامل الزمن على البوابة الشهيرة لعشتار وبسبب صعوبة الحصول عليه لأنه ناتج عن مزج لونين بنسب دقيقة وبدرجات حرارة عالية، وهذا أمر يتطلب معدات للوزن ومقياسا للحرارة لم يكن متوفراً في ذلك الوقت. وأيضاً لون الملوك الأرجواني الذي ظل سراً فترة طويلة وكان يدل على العظمة والثراء والبذخ الذي مهد لمتعة الاكتشاف اللوني. وبإمكان الألوان أن تستخدم مؤشراً للتطور وعلامة على ارتقاء الخيال وتطور الذهنية إلى مرحلة اختزال المفاهيم عبر معان لونية كانت مقدمة لتطور الفنون البشرية ودليلاً على وجودها.. ونضيف أيضاً المذهّبات والتزيين بالمعادن وتطور أساليب السبك وصناعة الحلي والألبسة التي تبرهن على حجم التطور المادي والنفسي الحاصل، حيث لا يمكن للذهنية أن تنمو بمعزل عن الاقتصاد لأن العملية تبادلية تفاعلية بينهما.

الألوان حاضرة بقوة في الحضارات السورية القديمة، وكانت تغتني بقدر الازدهار السائد في الحياة الاجتماعية والاقتصادية، لكنها تندحر وتخبو في عصور التراجع والانكفاء التي تترك أثرها على ما يحصل في المخيلة وما يصنعه النساجون والنحاتون وصانعو المجوهرات. فالأزرق في بوابة عشتار كان علامة على قدسية السماء والماء، وقد احتفت المعارض العالمية بتدرجات هذا اللون الذي كانت عشتار في بوابتها الشهيرة أهم المعبرين عنه. تلك الثقافة الحية في النظر إلى الحياة تعرضت لاحقاً للانكفاء منذ بداية عصور الانحطاط المعروفة في التاريخ فكانت الألوان تُسحب تدريجياً من المخيلة العامة فتصل إلى مرحلة تقتصر فيها التعابير على الرماديات وتدرجات الأسود في الشكل والمضمون.

سحب الأزرق من الكتب المعرفية بعد رميها في نهر الفرات من قبل هولاكو، كان علامة على إنهاء المعرفة وسيادة الجهل. وكذلك الأمر بالنسبة للألبسة التي اشتهر القدماء بزركشتها والتفنن بتزيينها نتيجة التفاؤل والحيوية اللذين تميز بهما المجتمع في تلك المرحلة، فغلبت بعدها الأحاديات اللونية الفقيرة بالزركشة والتطريزات نتيجة تدهور أسباب الحياة وتلاشي الحضارة والخضوع للاستعمار الخارجي.

الألوان بهذا المعنى تعبر عن مراحل حضارية ونفسية ومعرفية كانت سائدة في المجتمع الذي استخدمها من حيث يدري أو لا يدري كي يعكس حالته النفسية وخصوبة مخيلته.

خفّ اكتشاف الألوان وازدهار الفنون كثيراً بعد عصور الانحطاط انسجاماً مع التراجع الحضاري الذي حصل، وتطور الأمر إلى عصور أصبح فيها مخترعو الأزرق العشتاري والأرجواني الفينيقي يستوردون الألوان من الغرب الذي راح يفرض الموضة عبر شركات الألبسة ويعمم ثقافة التقليد على قصات اللباس والشعر والمكياج. حتى على صعيد الفنون التشكيلية، عانت الفنون من التوقف فترات طويلة من الزمن لتعود متأثرة بالفن الأوروبي وموضوعاته التي تناولها وذلك بسبب الانقطاع الذي حصل مع الخزان اللوني القديم الذي يمكن اختصاره بالأزرق والأرجواني.

الألوان تعبر عن تلافيف المخ والمخيلة وتختصر العواطف السائدة، فهي علامات فكرية حضارية كلما ازدهرت كان خطها البياني يشير إلى ارتقاء في أسباب الحياة وطبيعتها المادية والنفسية.. وهذا قد يفسر التقليد اللوني وتقليد الموضة وتقليد الفنون نتيجة القطع مع الجذور الذي حصل في حضارة المنطقة. فالقول إن سيماهم في ألوانهم منطقي جداً ويشكل معياراً لكشف ما يجري داخل العقل والروح معاً.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار