منير محمد خلف وقصائده المزملة بوجع الأنين
راوية زاهر
(كواعب من غيمٍ) مجموعة شعرية للشاعر منير محمد خلف صادرة عن وزارة الثقافة، الهيئة العامة للكتاب- دمشق، وهي مهداة إلى ذاته المتشظية بين بوادي الأيام، وضميره الغائب في ذؤابات المعاني.. وكاستكمالٍ لإبداعٍ متكامل تجاوز ثماني مجموعات شعرية، ناهيك عن الجوائز المتعددة التي نالها في سورية وخارجها تكريماً لفرادة حسّه وبراعة شدوه على دوح القصيد.
في عنوان المجموعة (كواعب من غيمٍ):عنوانٌ لافت انتشله الشاعر من عمق مجموعته الشعرية، وعنوّن به غلاف الكتاب، في اختيارٍ موفق وذكي ليشي برونق اللغة ودفق حبر الجمال على بياض الورق بصورةٍ حسية الطرفين، مرئية للناظرين، فلفظة كاعب وجمعها كواعب، ما هي إلا تعبيرٌ جذّاب يُطلق على الفتاة في مقتبل البهاء، في تصوير حسيّ للنضارة المتأصلة في عمق الجمال الأنثوي.. وما تحمله اللفظة في دلالاتها اللغوية والمعنوية من علو وارتفاعٍ متعلقين بطبيعة التكوين الجسدي للمرأة، وقد ارتبطت لفظة كواعب مع لفظة الغيم من حيث الدلالة وارتقائهما بجموحٍ نحو العلو والرفعة، ما بين اعتلاء الكواعب لعرش الجسد، واعتلاء الغيم لعرش السماء:
“قولي أحبّكَ،
واتركي ما يأتي
فيداكِ
صوتك : ترجمان حياتي.”
محملاً بعبء الماضي فوق كتفيه في سرمدية الخيبة المخبّأة في حنايا القلب الصامت، ملطخة بالجرح النازف تحت وطاة عمرٍ ينذوي في باقات السكوت وندب الكلمات، مبوبة المجموعة بروائع شعرية ما إن تتخطى وديان الدهشة في إحداها حتى يسقطك الجمال والإبداع سهواً في تاليها.. إذ تغنى بدمشق وغزل لها وشاح الجمال الشاهق من علو الغيم وشموخ قاسيون، فنامت على صدرها عشتار الولادة وسيدة القصيدة.
“شباك قلبك ساطع
فيه الفضاء
فضاء كفّك يا شآم.”
وفي مدار الراحلين وأيقونات العزاء المعتقة في قوارير الوقت، كانت الأيقونة الأولى تصخبُ من ضجيج الصمت الحزين لأم ٍّ راحلةٍ صعب غيابها، وأخت يلوك الفقد قلبها في زمن الحرب ويزيده بعداً على بعد ليزدهي شعره بمعجم اللغة الحزائني، وتترصعُ بتعابير الفقد والمرارة، الضياع والموت مفترشة أرض القصيدة.. يقول في مرثية أمّه:
“مرٌّ سؤالي عنكِ،
ومرّ نهاري،
ومرّ أنين لياليّ دونك،
ومرّ دوائي ومرّ شفائي.”
وفي رحلة الفقد نعى صديقه التشكيلي عمر حسيب شعراً باللون الذي لا ينام ولا يُراق، ونادم اللوحة التي بكت فراقه في صراخ أبديّ في ليل الهوان، وفي تأبين صديق لونيّ آخر (خلف الحسيني) زاوج بين لغة الألوان والظل ولغة الحزن والموت بموسيقا جنائزية تليق بمناقب الراحلين:
“ما البينُ
إلا كل حرف نازفٍ
والحبر أصل دمائه من طين.”
ويختمُ الشاعرُ مجموعته بقصائد مزملة بالأنين مع (القامشلي) مدينة الشاعر وواو ندبتها الحزين مستغيثاً من هول فاجعة كانت قد ألمت بها، وكانت نتيجتها مئات الأشلاء والضحايا وخرائب الرزايا المزنرة بالبارود والنار في موعدٍ مضروب مع الإرهاب:
“قامشلو
خانتني الكلمات السوداء
لا معنى للحبر الأسود
إذ صارت أشلاؤك
أصداءالحسرات العمياء.”
جاءت لغة الشاعر شاعرية بامتياز، تميلُ إلى الانزياح والرمز، وقد ضمّن خيالُ الشاعر المستنفر أمام الجمال خروجها من نمطية اللغة العادية، فأنطقت الجامد، وأفرغت فيه الأحاسيس، وترك قطعان المعاني تصولُ وتجولُ في مراعي اللغة، خارجةً من حقولها المعجمية الخشبية، منفتحة على لغة المجاز والاستعارة والتورية ذات الكثافة الشعرية العالية، ومدججةً بالإيحاء وفيض الرؤى.. (رأيت بلابل الكلمات حولي)، (أرى المدينة عارية)، (لم أر الأخطاء إلا حافية)، (تأخذني مراعي الصمت)، (توشوش الفرشاة في دمي).. استعارات وصور متنوعة تميلُ إلى التشخيص والأنسنة، وكذلك استخدام التشبيه بكل وجوهه مبرزاً جمال التصوير وصدق الأحاسيس.. (بستان وجهك كوكب من ياسمين)، كما مال إلى التناص (لنفسك أمارة بالحنين)، و(هي الحرب قد عادت إليك بسوسها)، في رحلة العودة إلى التاريخ وأوجاع فتنته. و(يا رفيق اللون) كناية عن رفيقه التشكيلي. وقد استخدم الشاعرُ بشكلٍ لافت ضمير المتكلم مع ميله لظاهرة الالتفات أحياناً (أنايَ، أسير نحوي، أراني الطفل المدلل.)، وما لفت أيضاً لغوياً هو استخدام الأحرف في انزياحات جديدة، مُحاولاً إشغال عقل المتلقي للوصول إلى المعنى المرجو، (متمسكاً بالحلم يرفو حاءه| بضياء حرف نبضه باء.).. وكذلك اهتمّ بالصوت واللون والحركة والرائحة إذ نراها تنضحُ مع ألفاظ العطر والورد.
“وأمام كواعب الغيم
في انتظار شموعها الخضر..
وشمعتان لا تذبلان..”
وفجائعية الموت والحزن والمرض والإرهاب الذي عضّ مدينته وهول البلايا (عزيزة، كاجين، عمر، خلف، جميل ومورازو)؛ نرى الشاعر ريحاً من الحزن المتنقل فوق مدارات القصيدة.