شيرين أبو عاقلة… كانت وستبقى معنا

بقلم د. وسيم وني
لم يسبق أن نال استشهاد صحفي بتغطية إعلامية ضد الاحتلال الإسرائيلي ردود أفعال كالتي برزت عقب اغتيال الإعلامية شيرين أبو عاقلة، فعلى مدى ما يقارب ربع قرن لم تكن شيرين أول ضحية ترتقي أثناء أداء واجبها المهني، فقد اغتالت قوات الاحتلال الإسرائيلي قبلها العديد من الصحفيين، وقطعاً لن تكون آخرهم، فمهنة الصحافة والإعلام، وخصوصاً حين تمارس في مناطق الحروب والصراعات الساخنة، تنطوي على قدر لا بأس به من المخاطر وخاصة مع عدو لا يحترم القوانين والمواثيق الدولية، فاحتمالات التعرض للقتل، خطأ أو عمداً مع سبق الإصرار والترصد، مسألة واردة في كل وقت وحين وفي أي مكان، وذلك لمنع الإعلاميين من نقل الوجه الحقيقي للإر*ه*اب الإسرائيلي ضد شعبنا ومقدساتنا .
إلّا أن اغتيال أبو عاقلة يختلف عن سابقاته من حالات الاغتيال, وذلك من حيث طبيعة اغتيالها ومكانه وتوقيته، الأمر الذي يجعل من اغتيال شيرين علامة فارقة في التأسيس لبداية مرحلة مختلفة عن سابقاتها من مراحل، ولاسيما أن أبو عاقلة وعلى الرغم من اغتيالها مرتين، إلّا أنها خرجت منتصرة على آلات القتل والدعاية الإسرائيلية والغايات المرجوة منها معبِّدة باستشهادها طريق الانتصار لشعبنا الفلسطيني على الاحتلال وشركائه من الغرب الاستعماري وفي القلب منه الولايات المتحدة الأمريكية ومن يطبِّع ويهلل لهذا الكيان .
فهناك عوامل عديدة أسهمت في تحويل عملية الاغتيال إلى حدث استثنائي هزَّ ضمير العالم بأسره أهمها ثلاثة: سمات شيرين الشخصية ومستوى أدائها المهني والفني، وطبيعة القضية التي ارتبطت بها في حياتها المهنية، وتوقيت عملية الاغتيال نفسها وملابساتها .

أما من حيث طبيعة الاغتيال فقد جاء مرتبطاً بحضور شيرين الإعلامي، إذ أصبحت وهي صاحبة القلب والعقل الفلسطينيين, وقبلهما صاحبة البصيرة الفلسطينية والمهنية العالية كواحدة من أصدق من ينقلون الحقيقة عن واقع شعبنا الفلسطيني، عن بطش وإر*ه*اب الاحتلال الإسرائيلي وقطعان المستوطنين، ولا أبالغ بالقول إن شيرين تشبه في صدق روايتها المذيع الأمريكي في محطة (CBS) إبان الحرب في فيتنام (ولتر كرونكايت) الذي كان يوصف في أمريكا (بالرجل الأصدق) نتيجة تقاريره الصحفية الصادقة عن الحرب الفيتنامية الأمريكية، حيث كان ينقل الحقيقة مردداً في كل تقرير له أن أمريكا لا تصنع النصر في فيتنام إنما ترتكب الجرائم، الأمر الذي كان له أثره في بناء رأي عام أمريكي ضاغط لإنهاء الحرب لصالح الثوار في فيتنام في بداية سبعينيات القرن الماضي .
وهذا ما تميزت به تقارير أبو عاقلة, التي اتسمت بالرصانة والبعد عن الانفعال والافتعال، واهتمت بشكل خاص بالتفاصيل والأبعاد المتعلقة بأوجاع الإنسان الفلسطيني في أرضه المحتلة، والذي يتعرض يومياً لأشكال عديدة من المعاناة، حين يجد نفسه مضطراً إلى الوقوف ساعات طويلة أمام الحواجز الأمنية، أو حين يستولي المحتل الغاصب على أرضه ويهدم بيته، أو حين يتعرض للاعتقال والسجن والتعذيب تارة، وللقتل تارة أخرى، إن قرر أن يصرخ ألماً أو يدافع عن حقوقه المغتصبة, لذا يمكن القول: إن شيرين كانت من أكثر الإعلاميين إحساساً بمعاناة الإنسان الفلسطيني والتصاقاً بهمومه، وهو ما تميزت به كثيراً وتفوقت به على نفسها وعلى غيرها لكونها أيضاً شكلت مصدر إزعاج للاحتلال الإسرائيلي وأسهمت في تعريته وكشف طبيعته العنصرية، ما دفعه إلى اغتيالها بدم بارد مع سبق الإصرار والترصد، لكنها تحولت، في استشهادها، إلى مصدر يؤرق المحتل ولن ينتهي إلّا بزواله وتحرير فلسطين .
وبعيداً عن الأثر المباشر الذي تتركه جريمة اغتيال شيرين أبو عاقلة، فإن غياب هذا الوجه الإعلامي البارز الذي كانت له مساهمات كبيرة في فضح الاحتلال ومواكبة نضال شعبنا الفلسطيني من أجل استعادة حقوقه المشروعة، سيجدد التأكيد هنا بأن الحسم العسكري الذي ينتهجه الاحتلال لن يكون مجدياً، حتى لو كان ميزان القوة يميل لصالح آلة القتل الإسرائيلية.
فآليات المواجهة باتت مختلفة وهناك تفهم دولي متزايد للحقوق الفلسطينية، بل إن هذا التفهم وصل شرائح واسعة من “المجتمع الإسرائيلي” الذي أدرك متأخراً أن تكلفة الاحتلال ستكون باهظة، وأن آفاق هذا الاحتلال مظلمة، وأن “إسرائيل “نفسها ستدفع عاجلاً أم آجلاً ثمناً لاحتلالها، وأن الصعوبات التي ستواجهها مع استمرار الاحتلال ستجبرها على دفع أثمان أكبر من تلك التي يطالب بها المجتمع الدولي حالياً.

اغتيال أبو عاقلة يعيد القضية الفلسطينية لمربعها الأول، فما يحدث في الضفة الغربية وفي القدس وفي كل فلسطين، يؤكد أن جذور المقاومة فاعلة ومتقدة، وقادرة على التذكير بالحاجة إلى مقاربة جادة وعادلة لإنهاء الاحتلال وعودة الحقوق الفلسطينية المشروعة، بموجب القرارات الدولية الصادرة بهذا الخصوص، وفي إطار الشرعية الدولية التي لا يمكن لأحد تجاوزها مهما طال الزمن، ومهما كثر

عدد الذين ينالون شرف الشهادة في الميدان ضحايا للمواجهات مع الاحتلال فشعبنا لن يكلَّ ولن يملَّ حتى تحريَر فلسطين، كل فلسطين.
رحلت شيرين ولم تعد بيننا نسمع كلماتها وتغطياتها الصحفية التي اعتدنا سماعها ومشاهدتها كل يوم، وهي توثق وترصد وتفضح آلة القتل الإسرائيلية، رحلت ولكن رسالتها الإعلامية ما زالت تصدح في عقولنا، وسنكمل المشوار في حمل رسالتها ونقل جريمة اغتيالها إلى المحافل الدولية إلى أن يلقى الجاني المجرم عقابه ، فشيرين أبو عاقلة كانت وستبقى معنا .

مدير مركز رؤية للدراسات والأبحاث / لبنان

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار