نهلة سوسو
منذ أبصر مصطلحُ “الأدب الوجيز” النورَ في الفضاء الثقافي العربي نهضت الرياحُ من الشقوق، واضطرب العجاج قادماً من أرضٍ بور، وأُشرعت الرّماح المسنونة، غيرةً على الإبداع الذي استُبيح والتجرؤ على قداسة الأجناس التي أُنجزَت عبر عصور وخُتمت بختمٍ لا يُفَضّ! فكيف يُترك مثلُ هذا الكفرِ يمرّ من دون دحضٍ وتفنيدٍ وتجريم؟
انبرى “خبراء الكتابة” لطرح أسئلة عصابية عن معنى القصة القصيرة جداً والومضة و”الهايكو”، وكيف تكون القصة قصةً من دون شخصيات وأحداث وصراعٍ وزمن؟ وما معنى الومضة في تسلسل الإبداع الإنساني: مسرحية، رواية، قصة، مقامة، قصيدة، وما هو “الهايكو” في أرض الشعر والمعلّقات؟ وأين يمكن أن يجد لقدميه مكاناً على برّها الواسع؟
حين أغادر هذا الهجوم الضاري على الأدب الوجيز إلى نصوصه المتعددة، يهبُّ عليّ نسيم رائق وتتردد أمام بصري موجاتٌ قزحيّة خاطفة تتشظّى عبر موشور كريستالي مصقول، فأعرف أسماءً وأرى وجوهاً وأرتاد أمكنةً لم تكن في الخيال، والخيال نفسه كان قد مضى بعيداً في كلّ عوالم الأدب من دون أن يفقد خواصّه وهو يستقبل الأدب الوجيز بجدّته وطرافته، والطرافة هنا هي الابتكار والحلاوة والملاحة! وحين يرتدُّ طَرْفي عن ومضة أو شذرة، تتداعى إليّ كأسراب القطا مقتطفات من فنون عرفناها في فن البلاغة: – آفةُ النفس الولَهُ بالدنيا. إنما الدّنيا شرَك وقع فيه من لا يعرفه. كان قميص يوسف بشرى الوصال حين ألقي على يعقوب. قد ينتهي طريقٌ عند بيت واحد، لكن ليس طريق العشق.. العشق نهرٌ.. اشرب منه!
كلُّ نصٍّ لا يسحب قارئه أو سامعه من أرضٍ ثابتة إلى جزرٍ دوارة خلابة لا قيمةَ له، والنصُّ يُقيَّم بتأثيره لا بطوله وعرضه وتعدد أركانه، وحتى الرواية والقصة والقصيدة المحمودة لدى منتقدي الأدب الوجيز لا تستوي جميعُها إلا بعد التعرض للإيجاز بوسيلة ما، وإلا ما كنا تقبّلنا مقولة “بيت القصيد”، وهي الذروة التي تكثّف النص وتكون “سلافتَه”، وليتذكر مُشرِعو الرماح أنه حتى الكلمة المفردة وحدها، مشحونةٌ بطاقاتٍ هائلة يمكن أن تحرك كل تيارات الريح الكونية!
ننتظر أن يزداد الأدب الوجيز نمواً ورسوخاً واتساعاً ونجوماً جدداً في ثقافةً خلاقة، لم تتنكّر حتى للسجع الذي عرفته في مرحلة من عمرها المديد، وقد ذمَّه النقاد وتعالَوا عليه رغم خصوصيته وفرادته، كما فعلوا مع شعر التفعيلة ودبّجوا ضدَّه مؤلفاتٍ طويلة وخاضوا على ضفافه معارك ضارية، فليس ضرورياً أن ينضوي كلُّ إبداعٍ جديد تحت معطفٍ مفصّلٍ على مقاسات عصره، لأن البدن حين يتبدل لا بدّ للمعطف أن يُعدّل أو يتغير، والفضيلة هنا أن النبت حين ينمو سيتبع النور ويواصل الحياة غير حافلٍ بالأيدي التي تحجب عنه الشمس بالأصابع!