بين الفجاجة والإيحاء.. إيقاع العنف يتصدّر مشهد الدراما السورية
ميسون شباني
دماء وعنف جسدي وبلطجة وتنمّر وألفاظ نابية.. تلك كانت العناوين الأبرز والأقوى في طروحات دراما هذا العام.. كثير من البهرجة البصرية والعنف والسطحية، وجرعات من الإثارة والتشويق لخلق حالة من الجذب للعمل الفني الذي بات معتمداً هذه المظاهر في المتابعة الجماهيرية، وأصبح مقياس الرجولة هو البلطجة والقتل، والبطل الخارق فوق القانون مثالٌ يُحتذى به للكثير من محبي هذه الشخصية الدرامية .. ترى كيف يُقيّم النقاد ظاهرة تنامي العنف في الدراما التلفزيونية؟
تقنين العنف
يُجيب الناقد الصحفي نضال قوشحة بأنه في وقتنا الحاضر وعلى المستوى العالمي العنف كبير، والدراما هي منعكس لهذه الحياة، فلا شك بأن معدلات العنف فيها ستكون كبيرة، ولكن بما أنها مرآة المجتمع يجب أن تلامس في طروحاتها الواقع، ولكن ليس كل ما هو موجود في الحياة يجب أن يكون على مسرح الدراما، فقد نبرر للدراما وجود مساحة للعنف، ولكن يجب أن يكون هذا الشيء مقنّناً، وإذا كان لابد من تقديمه فيجب أن يُقدم بشيءٍ من التورية الفنية عبر لعبة المونتاج الفنية الذكية التي تؤدي للوصول إلى نتائج أفضل، أي عدم السماح بوجود مشاهد كهذه إلا عن طريق الترميز أو الإيحاء أو صناعة دلالات معينة، وإذا أردنا مشهداً لجريمة قتل فنستطيع التلاعب بآثار الجريمة بطريقة فنية من الناحية الإبداعية، وبرمزية بسيطة بانتهاء عملية التنفيذ وبالتالي يفهم المتلقي بوجود جريمة قتل .
وحول العنف الذي تشهده الصناعة الدرامية يُضيف: إن حفنة من الأعمال التلفزيونية الدرامية العربية باتت تعزف على إيقاع العنف، والحقيقة أن حجمه هذا الموسم كان كبيراً وأخصّ مسلسلي “كسر عضم”، و”مع وقف التنفيذ “، إضافة إلى أن أعمال البيئة الشامية لا تخلو من بعض العنف، كقصة السكين وإشهارها والاعتداء النفسي الذي حدث مع ابنة “أم مصطفى” في مسلسل “الكندوش”، هو عنف موجود، ولكن بحدوده الدنيا غير أنه في الأعمال التي ذكرتها كان فيها عنف كبير، ونحن لا ننسى أن التلفزيون هو ليس الفن السينمائي الذي تذهب إليه مُختاراً، بل التلفزيون يدخل البيوت، وما يعرض فيه يشاهده الجميع كباراً وصغاراً، من هنا لابد من تقنين مادة العنف في الدراما، لأن مجتمعنا حساس جداً تجاه موضوع كهذا، والحقيقة أننا نعيش تفاصيل حياتية مليئة بالعنف في بعض الأماكن، من هنا أيضاً ينبغي ألا يتم وضع مشاهد درامية عنيفة إلا بما هو ضروري جداً ومقنن ومن خلال الترميز والدلالة.
دراما الموت والرعب
فيما يرى الناقد عمر جمعة أن هناك تنامياّ كبيراّ لظاهرة العنف بصورتيه الجسدي واللفظي بشكل لافت في الدراما السورية، ويعني ذلك أنها ليست مؤقتة أو عابرة بل هي في زيادة، حتى كأنه بات مقدراً على المتابع أو المشاهد أن يغرق بالدماء وتصدمه مشاهد القتل والاغتيال والانتحار والحرق والتدمير والتفجيرات، وصار دور صنّاع الدراما تقديم جرعة التشويق وربط أحداثها مع تداعيات الحرب التي تعيشها سورية منذ 12 عاماً، من دون إدراك مخاطر هذه المشاهد على المجتمع بمختلف فئاته ولاسيما الأطفال. فما رأيناه في مسلسل “كسر عضم” هذا الموسم، على سبيل المثال لا الحصر، لأنه احتوى على مشاهد مرعبة جداً، تصل حدّ اتهامه بتكريس الظاهرة، يذكرنا بما قُدّم في مسلسلات: “عناية مشددة”، “دومينو”، “شوق”، ومعها مسلسل “مع وقف التنفيذ” أيضاً والعنف الممارس ضد المرأة من أسرتها مجسّدة بشخصية “عتاب”، فضلاً عن بعض حلقات سلسلة “بقعة ضوء”. لننتقل إلى السؤال الأهم: من يوقف سيل هذه المشاهد التي كان يخشاها الكبار، واليوم صارت فرجة محبّبة للأطفال؟ ومن يراقب ويدرس تأثيرها وانعكاسها على المجتمع، وخاصة أننا شهدنا كثيراً ضحايا “مسدسات الخرز” والمفرقعات من بعض الأطفال والمراهقين الذين يخوضون حروبهم في أيام العيد، وباقي أيام السنة بين الأزقة والأحياء، لتقليد تلك المشاهد، كما لا ننسى أبداً معارك “الخناجر والشبريات” التي كرستها أيضاً مسلسلات البيئة الشامية، ولنا في الطفل الذي مات قبل سنوات وهو يقلد مشهد إعدام “نصار ابن عريبي” في مسلسل “الخوالي” خير مثال. وعليه بات لزاماً، بل من الواجب التنبيه إلى مخاطر تلك الظاهرة ومكافحتها كلياً، لا الحدّ منها فقط أو تقليلها، إذ يكفي الإنسان السوري ما يعيشه من مشاهد مروّعة ومرعبة تبعث على اليأس والإحباط والأسى في حياته اليومية، وكفى بعض صنّاع الدراما التلطي خلف المقولة الجاهزة الملتبسة: “الفن هو انعكاس لصورة الواقع”، لأن الكثير من الأعمال المحلية والعربية والعالمية باتت في الذاكرة والوعي الجمعي خالدة لأنها واربت في تصوير أحداث الحرب، وذهبت إلى التلميح لا التصريح، ونأت بنفسها عن مشاهد القتل والدماء أو “دراما الموت والرعب”، واستحقت بذلك تسمية الدراما الراقية التي تدعو إلى الأمل والحياة.
ضرب ثقافتنا ومعتقداتنا
من جهتها أكدت د.تغريد مسلم أستاذة علم الاجتماع في جامعة دمشق أن للدراما أثراّ كبيراّ على المجتمع من خلال ما تعرضه من أمور وقضايا سلبية وايجابية، ويتمثل دورها لكونها تدخل العقول من دون عناء وتأثيرها في عواطف المتلقي كبير، حيث يعتبر التأثير العاطفي أقوى أشكال التأثير، وخاصة أن مجتمعنا السوري مجتمع عاطفي، ومع تطور الدراما السورية وتصدّرها جعلها تصبح قدوة في مكان ما ومبررة للتصرفات في مكان آخر، إضافة إلى حالة القبول الاجتماعي من الجمهور لمحتواها الفني بغض النظر عن ماهيته ومدى خطورته.
وأضافت: من واجب الدراما أن تكون منبراً لنشر الوعي، فهي سلاح فعّال لحماية المجتمع، وخاصة أنها تقدم قضايا حياتية , لذا يجب أن تكون طريقة الطرح مدروسة. وفي نظرة شاملة للدراما نجد أنها أتت إلينا بمظاهر عنف قد لا نستغربه وخاصة بعد سنوات الحرب على سورية، إلا أن هذا العنف الذي تنقله الدراما من شأنه أن يؤثر بشكل سلبي من جهة ترسيخ مظاهر العنف في النفوس وفي السلوكيات، ولم يقتصر تقديم الدراما على العنف الجسدي بل تعداه إلى العنف النفسي وهو الأخطر الذي يضرب صميم النفوس.
ومن خلال متابعة بعض الأعمال الدرامية السورية نجدها تطرح قضايا عديدة كالفساد والانحلال الأخلاقي والأسري والكذب والغش والخيانة، وقد تكون الدراما معذورة بشكلٍ ما لأن الحرب على سورية أفرزت سلوكيات وقضايا خاطئة، ولكن يجب ألا ننسى أن الغرض الأساسي للحرب هو ضرب ثقافتنا.
صحيح يجب الإضاءة على المسببات ولكن يجب أن يكون دورها أقوى بالإضاءة على النتائج وإعطاء الأولوية لنشر الوعي وحماية النفوس من الدمار والإحباط وهذا ما قامت به المخرجة رشا شربتجي عندما أوجدت في نهاية “كسر عضم” شيئاً من الأمل.
لكن من المنتظر من الدراما السورية أن تكون موجهة بشكلٍ أفضل حتى لا يكون أثر عرض مثل هذه القضايا التي سلف ذكرها أثراً عكسياً فبدل أن تكون الغاية تجارية ممكن تحويرها لتصبح مقبولة بشكلٍ ما، ونأمل في الأعمال القادمة أن تشارك الدراما والقائمون عليها بطرح قضايا وعلاجها , بحيث تكون نتائجها مرضية للمجتمع.