على منوال الأسلوب الروماني.. هل تخسر أم تربح رشا شربتجي بنسج نهايات شخصياتها؟!
نضال بشارة
تصرّ المخرجة رشا شربتجي على عدم نأيها عن الأسلوب الروماني منذ مسلسلها “غزلان في غابة الذئاب” عام 2006 و”الولادة من الخاصرة” وصولاً إلى ” كسر عضم” في الموسم المنصرم ، وأعمال أخرى لم نشاهدها ربما تقع في الخانة نفسها، ولا ننسى أن نشير إلى أن لها مسلسلات أخرى بتوقيعها لا تمت بصلة لهذا الأسلوب. فمنذ مشهد قتل شخصية”أيمن رضا” من قبل شخصية “قاسم ملحو” لأنه كان يضرب وبشدة شخصية “غزوان الصفدي”، بعد خلاف نشأ بينهما، ومنظر الدم الذي تدفق من رأس أيمن، وسبحت الشخصية فيه، وعادت له المخرجة في مشهد ثان، الذي لم يغب عن ذاكرتنا حتى هذه اللحظة، رغم كل ما شاهدناه من مشاهد دامية وقاسية خلال سنوات الحرب، فلا تزال شربتجي منذ ذلك المشهد تعتمد الأسلوب ذاته في تقديم مشاهد العنف والقسوة والدم بين حين وآخر، من دون ضرورة درامية، فقط لتوهمنا بأنها تقدم عملاً واقعياً ويغيب عن بالها أن للفن لغته الإيحائية أيضاً وإلاّ نأى عن حقله الإبداعي.
إيقاظ الهاجع
فالأسلوب الروماني، للمؤلفة “أديث هاملتون”، هو ثاني أسلوب بعد اليوناني في الأدب والفن والحياة ، وفق كتابين لها ترجمهما وقدّم لهما الناقد حنا عبود، صدرا ضمن (منشورات وزارة الثقافة السورية – المعهد العالي للفنون المسرحية). نقرأ من مقدمة الناقد عبود عن الأسلوب الروماني: “هو أسلوب لو نظرنا اليوم في الفنون المرئية لوجدنا أنه يحتل المرتبة الأولى في قدرته الفذّة على إيقاظ كل ما كان يعتقد اليونان أنه يجب أن يظل هاجعاً. وقد استغل المشتغلون بالفنون المرئية هذا الأسلوب، حيث يعرضون مشاهد العنف مهما كانت قاسية ، حتى إن بعضهم راح يعرض العنق الذبيح والخازوق المدمى والبطن الممزق والساق المبتورة واليد المقطوعة (…..)، مما يذكرنا بالمسرح الروماني الذي استنسخت أميركا أسلوبه وأضافت إليه وغالت فيه حتى صارت زعيمة الأسلوب الروماني في العصر الحديث”.
تأكيد المؤكد!
لقد احتوى مسلسل “كسر عضم” على مشاهد قتل تجاوزت العشرة، افتُتحت منذ الحلقة الأولى بقتل شخصية “بسام ” غزوان الصفدي” لشخصية “أم يارا” هلا يماني بسكين في رقبتها ونفور الدم، والمشهد يمر لولا عودة المخرجة له مرتين أخريين، وفي كل مرة كانت كمية الدم تزداد ويصبح المشهد أكثر قسوة، والعودة له ربما لتفهمنا أن المغدورة ماتت بعد أن سبحت في دمها، مع أن اللقطة الأولى كافية ووافية لنفهم كمشاهدين أن القتل قد حدث.! أمّا المشهد الثاني في الحلقة الثانية عقب تفجير السيارة المفخخة، على حاجز حدودي ارتقى بسببه سبعة شهداء هم العميد “طلال ” د. تامر العربيد، وستة من العساكر حرس الحاجز، وثلاثة سائقين لموكب العميد الذين لم تظهر للمشاهدين جثامينهم وكذلك جثمان العميد، في حين قام الضابط ” ريان ” سامر إسماعيل بإسعاف حرس الحاجز الذين ارتقوا شهداء تباعاً، وكانوا بحال مشوهة جداً، لم يكن ثمة ضرورة لإظهار حالهم بلقطات قريبة , إذ كان من الأفضل تقديمهم بلقطات عامة لتخفيف قسوة المشهد، فالكثير من المشاهدين رأوا مثلها خلال هذه الحرب، إمّا عبر فيديوهات وسائل التواصل أو شاشات الفضائيات، وخاصة أننا أشرنا في مقال سابق إلى أنه من المستحيل أن يظل حياً أي شخص في دائرة قريبة من انفجار سيارة مفخخة لم تتجاوز 30 متراً، بمن فيهم الضابط “ريان” وزميله “فيصل”. ومن ثم جرت مشاهد القتل في الحلقات التالية على الوتيرة نفسها من القسوة رغم أنه لا داعي لها، لن نذكرها طبعاً كلها. فمثلاً في الحلقة 21 لم يكن من الضروري أن نرى كمشاهدين كمية الدم التي أخرجتها رصاصة الغدر من فم المقدم ” فيصل” محمد قنوع التي أطلقها ” أبو مريم” كرم شعراني في أسفل رأس فيصل وهو يدفن شقيقته المصابة بمرض الإيدز، بعد أن خنقها بقلب بارد، وفق أوامر “حكم الصياد” فايز قزق / زوجها، إذ كان يكفي أن يطلق النار من الخلف ثم نرى “فيصل” وقد أصبح جثة هامدة في القبر فوق جثة شقيقته؟!
سباحة في الدم
ولم يكن ذلك المشهد هو الوحيد الذي كان بإمكان المخرجة شربتجي أن تقدمه بطريقة أخرى، فمشهد قتل الشاب أيضاً بسكين من الخلف بعد أن طعنته بها الفتاة التي اكتشفت أنه صورها بـ “فيديو غير أخلاقي” ليبتزها ، وكذلك مشهد انتحار “ريان” الذي سبح في دمه، إذ لا ضرورة للّقطات القريبة جداً , فاللقطات العامة والسريعة تفي بالغرض طالما شاهدنا أنه أطلق النار على رأسه ، والمفارقة أنها تلجأ للقطة عامة حين يحتضنه أبوه الحكم وينوح على فقدانه، لنرى بركة الدماء،كإصرار منها على أن تُرينا كمية الدم!. ومن عشق “شربتجي” لمنظر الدم تدفع بالشخصية التي خطفت ” نهى” نانسي خوري, حتى تأتي له بـ “يارا ” ولاء عزام ويقتلها, وفق المهمة التي أوكلت إليها بمقابل مادي، دفعته ليذبحها من دون سبب، فنهى حذرت يارا من المجيء ولم تبدأ بإعطاء عنوان، إذاً لم يكن سبب ذبحها مقنعاً، والمهم طبعاً أن ترينا كيف سبحت في دمها.
نأيٌّ عن الوهم
تتوهم المخرجة “شربتجي” أن هذه القسوة هي التي تترك الأثر في نفوس المشاهدين وتنفرهم من القَتَلَة، لظنها أن مشهد القتل والدماء التي تعمّد الضحية أو الشهيد، هو صاحب التأثير، فتغالي به، ولأن الفنّ، كما يقول الناقد الجمالي والشاعر د. سعد الدين كليب، ليس وسيلة تعبيرية أو صناعة ذوقية أو متعة جمالية أو تجربة إنسانية أو خبرة تقنية وفنية وحسب. إنه أيضاً وأولاً شكل من أشكال الوعي الاجتماعي- الإنساني. من دون أن نعي ذلك لن نستطيع أن نستوعب أهمية الفنّ، ولا أهمية المتعة فيه، ولا أهمية المعرفة التي ينطوي عليها، ولا حتى أهمية الجمالات المحيطة بنا في الطبيعة والواقع. ولأننا نعوّل عليها كمخرجة في جعبتها أعمال مهمة منذ ” أشواك ناعمة” مروراً بـ ” العار” و ” تخت شرقي” و”قلم حمرة” ومن دون أن ننسى ” قانون ولكن”، ناهيك بأنها تُحسن إدارة فريق تمثيلها وتُحسن اختياره. فهل نشهد نأيها عن الأسلوب الروماني، بغض النظر إن أعجبتنا المقومات الفكرية أم لا لأعمالها القادمة؟ ففي الإيحاء بلاغة ودلالة أيضاً.