الأغنية الفراتية.. فاتحة النسخة الخامسة من مشروع “نوافذ”
من الإجحاف، أن نبدأ حديثاً، عن الأغنية الفراتية، دون أن يكون “ذياب مشهور”، مرجعيةً، نبدأ منها ونعود إليها، ليس لأن صاحب “يا بو ردين” و”عالمايا عالمايا”، صوتٌ فراتي أصيل، فحسب، بل لأنه ظل وفياً حتى اعتزاله، لموسيقا منطقته، لم ينقلها إلى السوريين فقط، ممن لم يعرفوا عن المنطقة الشرقية، وتحديداً محافظة دير الزور، لزمنٍ طويل، سوى صوت المطرب الحاضر في المسلسلين الشهيرين “صح النوم” و”ملح وسكر”، بل حملها إلى العالم أيضاً، وأدّاها في أمريكا واليونان وإسبانيا، والعديد من الدول العربية.
مناسبة الحديث عن الأغنية الفراتية، ندوةٌ أقامها مؤخراً مشروع “نوافذ” الثقافي في عامه الخامس، في مجمع دمر الثقافي، استحضر فيها نماذج من الغناء الفراتي، على أن تكون فاتحةً لعدة ندواتٍ تحكي عن الغناء السوري القديم، كجزءٍ من التراث اللامادي، يصفه صاحب المشروع، الزميل إدريس مراد، بالمظلوم إعلامياً، والغائب عن المسارح السورية، عدا عن أننا نسمعه مُشوهاً، ممن يدّعون دعمه وتجديده، فرقٌ فنية شبابية، تُقدّم تراثاً غيّرت في مقاماته وكلماته، ولهذا فالخوف من اندثاره، مشروعٌ ولا مبالغة فيه، والحاجة إلى دعمه مُلحةٌ جداً.
معروفٌ أن الغناء في دير الزور ميالٌ للحزن والألفاظ الجزلة، ولذلك أسبابٌ تاريخية، برأي الزميلة والشاعرة بثينة عبد الكريم، ابنة المحافظة، حيث شهدت المنطقة الشرقية عموماً، أحداثاً مؤلمة، كان وادي الفرات فيها، ميداناً لمعارك كثيرة، تركت آثارها، في الغناء، وفي السياق ذاته، اكتُشِفَ تمثال “أورنينا” المغنية والراقصة في مملكة (ماري) الواقعة جنوب مدينة دير الزور، يعتقد علماء الآثار أنها أول من غنت على سطح الأرض، عام /3500/ ق.م. تقول عبد الكريم لـ “تشرين”: “عندنا مبدعون في كل المجالات، لكننا لم نسعَ للانتشار، وبالمقابل التعتيم الإعلامي بما يخصنا غير مفهوم”.
تعددت الحضارات التي سكنت وادي الفرات، وتركت كلٌ منها بصمةً في فنون المنطقة، إضافةً إلى تفرّد المدينة بلهجةٍ خاصة تحتوي مفرداتٍ من البداوة والريف، واختلافٍ في ألوان الغناء بين سكان ضفتي النهر، ومن ثم، أضافت عبد الكريم في كلمتها: “وصل إلينا الغناء الفراتي، حاملاً من بيئة النهر والسهل والبادية، مُعبراً عن عالمٍ خاصٍ بجيران الفرات، يصف فرحهم أيام الحصاد وحزنهم عندما يفيض النهر، كما نقل طريق الحرير، ودير الزور إحدى محطاته، الكثير من تراث الشعوب مثل “المولية” المشتقة من “المولوية”، فنٌ معروفٌ بغنائه ورقصاته، يتألف من خمسة أشطر اختُصرت في المولية لتصبح أربعة، كما اختُصر الموشح ليصبح قداً”.
من ألوان الغناء الفراتي، تحدثت الشاعرة عن “اللالا”، يُقصد بها، “القمر على لالا”، أي تلألئ وشاهده الجميع، أيضاً هناك “المايا”، وهي امرأة تعيش على ضفة النهر، اختص هذا اللون، بوصف جمالها، جميع النماذج الغنائية الخاصة به، تأتي في لحنٍ واحد، على مقام العجم، أبياتها تبدأ بمقطعٍ مُوّحد، ينتهي بكلمة “مايا”، أما المقاطع الأخرى التي تعقب المطلع، فكل مقطعٍ غنائيٍ فيها يُنظم في بيتين من الشعر، أربعة أشطر تأتي الثلاثة الأولى فيها في قافية واحدة. كذلك عرفت المنطقة “البوردانة”، أي البربانة، أخذت اسمها من الردن الطويلة للثوب الذي كان زياً شائعاً في دير الزور للرجال والنساء، يُغنى هذا اللون في مقام السيكا، وكافة النماذج الغنائية الخاصة به، تُؤدّى في لحنٍ واحد، كما تبدأ جميع أبياته بمطلعٍ مُوّحد “يا بو ردين يا بو ردانا”.
يتميز الغناء الفراتي في العشيرة بـ”النايل”، تشرح عنه عبد الكريم: “من ألوان الموال، يختلف من عشيرة إلى أخرى، تتكون وحدته من بيتين متحدي القافية، تعود تسميته إلى النيل، اللون الكحلي المائل للسواد، كنايةً عن شدة الحزن”، وغير بعيدٍ عنه، يعد فن “العتابا” لوناً فراتياً بُكائياً، “يُنظم على البحر الوافر، يسميه الديريون، مووايل ديرية قديمة أو عتابا ديرية حزينة، تُغنى في جميع المناسبات بمرافقة الربابة أو الشاخولة أو من دونهما، من نغم “البيات، الصبا، الحجاز”، حالياً يُمكن أداؤها على أي مقام موسيقي مع الآلات الموسيقية، ولها صنفان يختلفان في المضمون هما “الفراقيات”، يُعبر قائلها عن الفراق والظلم الاجتماعي، و”الهواويات” تُكتب وتُؤدى بنفس طريقة الأولى، لكن مضمونها غزلي، ووقع مفرداتها أخف”.
الفنان اسكندر عبيد، ترجم ما سبق إلى أغنياتٍ ومقطوعاتٍ، غناءً وعزفاً على آلة العود، وهو صاحب تجربة في تقديم اللون الفراتي التراثي والأغنية العراقية، لديه مشاركات منوّعة على المسارح وفي التلفزيون والإذاعة، وكان عضواً في “فرقة الفرات لإحياء التراث” في دير الزور، قدمت أغنياتٍ تراثية قديمة بقوالب جديدة، وضعها ملحنون مختصون، وكان لها حضورٌ على مستوى المحافظة، قبل أن تسوء الأوضاع هناك ويتفرّق أعضاؤها.
يقول عبيد لـ “تشرين”: “لفترةٍ طويلة لم تكن هناك معاهد موسيقية في دير الزور، رغم أن الغناء فيها قديم، لكنه يعتمد على السمع، لا الدراسة الأكاديمية، هذا الأمر لم يكن في مصلحتنا، واليوم الأغنية الفراتية في خطر، يجب أن نحافظ عليها من النسيان والتحريف والغياب”.