كيف تستطيع القصيدة العربية أن تمتد في الزمن؟
حتى يومنا هذا، ومع اقتراب اليوم العالمي للشعر، لا تزال المعركة حامية الوطيس بين الحداثة الشعرية العربية وعلاقتها مع التراث، ورغم جميع المحاولات لتمويه تلك العلاقة أو إخفائها تحت أقنعة مختلفة، إلا أن امتداد الأثر متواصل والدلائل عليه لا تعد ولا تحصى، ولا نبتعد عن الصواب حين نقول بأن الشعر العربي المعاصر لم يُسقط الزمن الماضي وما فيه من تراث من حسابه، كما أنه لم يبتر الحاضر عن الماضي والمستقبل، وإنما يتضمن سعياً حثيثاً للتأكيد على ارتباط الحاضر بالماضي، أو الواقع بالتاريخ، إن صحّ التوصيف، بالرغم من محاولة أتباع الحداثة الشعرية أن يلفوا قصائدهم بالغموض وأن يدثروها بالإبهام والغرابة، من خلال استخدام تفكير خاص باللغة لم تعهده الذائقة العربية، ما يصدم المتلقي ويحدث شرخاً في بنية نظامه المعرفي التي تعود عليها في الشعر العمودي.
ولعل ما جاء به «صلاح عبد الصبور» في كتابه «حياتي في الشعر» من أن «التراث ليس تركةً جامدة، ولكنه حياة متجددة، والماضي لا يحيا إلا في الحاضر، وكل قصيدة لا تستطيع أن تمد عمرها إلى المستقبل، لا تستحق أن تكون تراثاً، ولكل شاعر أن يتخيَّر تراثه»، باتت بمثابة قاعدة متينة الأركان بالإمكان الاتكاء عليها في توصيف العلاقة بين الشعر والتراث، ولاسيما أنه ليس بالمستطاع قطع الصلة بشكل تام بين الشعر المعاصر وتراثنا، كما أن كل نهضة شعرية في أمة تحمل تراثاً شعرياً عريقاً متراكماً لا بُدَّ لها من العودة إلى الينابيع الأصلية، لكن هذه العودة تختلف بالتأكيد عمّا يُدعى بـ«السلفية الشعرية» بحسب توصيف الشاعر «خليل حاوي»، وذلك أنها ليست عودة لإحياء الأنماط والنماذج التي استقرت في قوالب جامدة، بل إلى الينابيع التي تفجرت فيها روح حيوية تولِّد أنماطاً ونماذج جديدة، يقول «حاوي»: «حين أُعيد النظر في نهضة الشعر العربي أرى أننا كنا نحاول واعين أن نحدث ثورة، تجعل الشعر الحديث ينفصل عن الشعر العربي بقدر ما يتصل به، وكان كل منا يحاول الانطلاق مما يراه عناصر حية في التراث».
هنا لا بد من إدراك البعد الحضاري للشعر وأن نكون واعين لدوره الحقيقي، وأن الحداثة الأصيلة إنما تنمو في أعماق التراث وتخرج منه، بمعنى أن استلهام فطرته وبداهته وغناه الخلَّاق بغية محاولة خلق استمرارية له، وبناء تراث جديد له أركانه ومزاياه، ولو مرّ ذلك بعشرات السنوات من التجريب للتأسيس لذاك «التراث المعاصر» إن صحَّت التسمية، ولاسيما أن على الشعر المعاصر السعي الدؤوب لاستيعاب الثقافة الإنسانية بعامة، ثم بلورتها وتحديد موقف الإنسان المعاصر منها، من أجل أن يحقق نوعاً من وحدة الفكر، بحيث صارت كل قضية إنسانية يعيشها الإنسان في أي مكان على وجه الأرض هي قضية الإنسان كل إنسان حيثما كان، مما يؤسس لأن يصبح الشعر جامعاً وليس مشتِّتاً مفرِّقاً، ولعل هذا يتوافق مع ما قاله «ت س إليوت» صاحب «أرب اليباب» في تعريفه للتراث: «إن التراث يتضمن أساساً الحس التاريخي الذي ينطوي على إدراك نافذ، ليس لماضوية الماضي فحسب بل لحضوره، وهو يُلزم الشاعر بأن يكتب لا بوعي الانتماء إلى جيله فحسب، بل بتأثير الشعور بأن أدب بلاده بأسره موجود بشكل متزامن ويُؤلف نظاماً كونياً متزامناً، هذا الحس التاريخي هو حس بالسرمدي، وهو حس بالزمني أيضاً، كما أنه حس بالسرمدي والزمني معاً، وهو في الوقت نفسه ما يجعل الكاتب يعي بحدةٍ مكانه في الزمن أي كونه معاصراً».
أي إنه ليس المهم الزَّمن في الشِّعر، بقدر أهمية الشعر في الزمن، وامتداده فيه، وقدرة القصيدة على إثبات ذاتها بأكبر قدر ممكن من الأصالة والفرادة والتميز، وخلق مناخاتها الخاصة بعيداً عن أي قوالب لها علاقة بالزمن، أو إطارات مُحددة مسبقاً بحكم سطوة الماضي القريب والبعيد، وصولاً إلى الجِدّة الشعرية التي تحدثها عنها «أدونيس» ذات مرة في سياق حديثه عن العلاقة بينه وبين تراثه بالقول: «إن أشكال التعبير الموروثة لغة وبناء إنما هي بمثابة القشرة والسطح، ولا بد من تمزيقها لكي نصل إلى لغة وبناء جديدين، إذ إن العلامة الأولى للجدة الشعرية هي في إيصال الاتصال، أي في نفي السائد المعمَّم ورفض الاندراج فيه والانفصال عن الكلي العميق، فالرفض أو النفي هو بهذا المعنى علامة الأصالة إلى كونه علامة الجدة».
وهنا نتذكر إجابة «أدونيس» في كتابه «الثابت والمتحوّل»: «إذا سُئلت كيف تحدد علاقتك أنت الشاعر بتراثك العربي؟ أُجيب أولاً لا معنى لهذا السؤال، ذلك أنني لا أستطيع أن أحدد علاقتي مع شيء غائم غير محدد، وإنما أحددها مع شيء معين، وأجيب ثانياً بتساؤل ماذا تعني العلاقة هنا؟ ثم وإذا كان هذا السؤال مطروحاً بمنطق الثقافة السائدة، فإن هذه العلاقة تعني أن أكون مؤتلفاً مع تراثي أي أن لا آتي بشيء إذا لم يكن أسلافي من الشعراء عرفوه ومارسوه وأقّروه، لكن إن كان السؤال ذاته مطروحاً بمنطق الرؤية الإبداعية، فإن هذه العلاقة تعني أن أكون مختلفاً عن أسلافي من الشعراء. بل أكثر من ذلك لا يكون الشاعر العربي نفسه حقاً، إلا إذا اختلف عن أسلافه، فكل إبداع اختلاف».
وبين الاتفاق والاختلاف، وبغض النظر عن وجهات النظر العديدة في هذا الموضع، لكن يبقى من العبث برأيي، ومضيعة للوقت، الاستمرار في التجادل في أمر الشعر داخل إطار المعركة بين الجديد والقديم، بل ينبغي أن ندع هذا التصور يتحلل في أذهاننا ويذوب، وأن نصرف جهدنا في دراسة الشعر، قديمه وجديده، بالتركيز على الشعرية، وجماليات المخيلة، وجِدَّة اللغة، وحيوية الأسلوب، والتفكير المستمر بالشعر ككيان لا يستقيم ولا يتزن مع ذاته إن ركن إلى الجمود.