معرض يونس السيد في صالة تجليات.. بين ثنائية الجَمال والشَّبَه
تحيلنا اللوحات الثمانية عشرة في معرض «ليل طويل» للفنان «يونس السيد» ضمن صالة تجليات إلى مناخات قريبة مما اشتغل عليه المصور الفرنسي «هنري دي تولوز لوتريك» (1864-1901)، من مثل لوحة «القبلة» ولوحة «فتاتان على السرير» وغيرهما، حيث تكتنف نظرته إلى الوجود أحاسيس دفينة بورطة الحياة ومآسيها المديدة، إذ يشتغل «السيد» على الثنائيات المتضادة بين الحلم والكابوس، القلق والطمأنينة، الموت والحياة، الدفء والبرد.. جاعلاً من الوجود كله امتداداً لروحه ونفسيته، من خلال تعبيرية غاية في الجمال يبث من خلالها رؤاه التشكيلية بكل ما تحمله من شحنات عاطفية متولدة من انصهار الحياة في مخيلته الخصبة، بحيث تأتي لوحاته بمنزلة تثبيت لأحاسيسه، كما لو كان ما تخطه يداه ليس سوى جزء من ذاته، بعيداً عن الواقع الموضوعي المحيط به.
شخصية «السيد» الفنية واضحة المعالم، تهتم بالإنسان وتكوينات جسده، مع دراسة دقيقة للفراغ من حولها وزركشته في بعض الأحيان، إضافة إلى عناية فائقة باللون وحيويته وإكسابه قوة زائدة، عبر جرأة في لطخات الفرشاة، وزخم مقصود بعيداً عن اللطافة، مما يعطي الألوان بعداً رمزياً أخاذاً، لاسيما فيما يتعلق بتشريح الجسد، والاهتمام بالتفاصيل الدقيقة للأقدام وأصابع اليدين والعضلات.. إلى جانب ديناميكية عالية في التلوين تحقق طابعاً درامياً لأعماله، يتماهى مع موضوعاته التي تتمحور حول الخوف والعزلة والوحشة والقلق ومرارة العيش، وصراع الأجساد في زحمة المآسي، مع ملامح تشي بالحب والدفء وبعض الأمل على ضآلته في أعمال أخرى.. فمثلاً هناك التضاد بين حرارة الألوان لتلك المرأة المتكورة على نفسها أمام مرآتها التي تعكسها بألوان باردة، كأننا أمام تجسيد فني لبرج الجوزاء.. وهناك الرجل الموسوم بعصابية حركية ينسلخ من ذاته أكثر من مرة، وفي كل منها لا يصل إلى أمانه الداخلي، صوَّره «السيد» على خلفية لونية مُحايدة إمعاناً في تكريس وحشته، وثمة امرأة نائمة تستكين إلى أريكتها الوثيرة، وأخرى تلتحف حرامها الناعم المزين بالأزهار في الثلث الأعلى من اللوحة، كأنها مستغرقة في طيرانها ضمن الحُلم.. وفي نسق مُضاد هناك صبية شبه عارية إلا من أوراق شجرة، تتكئان على بعضهما بحزنٍ قدريٍّ بادٍ للعيان.. وثالثة تنطوي على نفسها بحركة راقصة تستسلم فيها للجاذبية التي تقودها إلى أرضية حمراء بلون الدم، في حين تُعرِّش نبتة من صدر فتاة تستلقي على ظهرها، فتنتشلها من التصاقها بالأرض.
وفي لوحة أخرى تختلط الأجساد وتتراكم فوق بعضها بتركيبة جمالية تُعلي من شأن تكوين الأقدام والأيدي وانفلاتاتها، بينما الوجوه مختبئة.. على عكس الوجه المُشرَّع لمائدة الهموم وأطباقها اليومية، بشوكها وسكاكينها وعلب بهاراتها المشكّلة وكأسها الفارغة، والمأخوذة من منظور علوي في تصوير للواقع الضاغط، مع لطخات لونية بالأحمر على الجبهة، توازن ترابية الطاولة ومحتوياتها، بينما الإنهاك هو سيد الموقف في لوحة من المناخ نفسه، لكن في موازاة الإعياء والصحن الفارغ ثمة هواجس تعلو وتتراقص على خلفية سوداء كتيمة.
مشاهد الحب يحتل في بعضها «السيد» المركز، إذ يُصوِّر ذاته كجزء أساسي من الموضوع، فهو في إحدى اللوحات إلى جانب حبيبته يضمها، ويبدو العمل قريباً جداً من مناخات الفوتوغراف لحيوية ألوانه والاشتغال المميز على تقنية النور والظل، مع الخلفية ذات اللطخات الزهرية العريضة التي تغطي اللون البني المختبئ وراءها، بينما تتكئ الأنثى بثوبها الطائر على وسادة يحملها الذكر الذي يستند بيده اليسرى على الأرض بعدما وقعت منه تفاحة حمراء خلخلت جاذبيته، ليكتمل فعل التجاسد في لوحة يظهر فيها الرجل والمرأة في تكوين أقرب إلى التناظر، ورغم التصاقهما، إلا أنهما في حالة تنافر ورفض، يد كل منهما على رقبة الآخر تدفعها إلى أبعد ما يمكن، وتبدو هنا المرأة في أقصى درجات صمتها، لاسيما مع تكثيف اللون الرمادي على وجهها، بينما تتماهى الخلفية البنية مع ملابس الرجل في عنفه وسطوته.
ورغم جماليات المعرض المتعددة، إلا أن المتابع لحركة الفن التشكيلي العالمية، سيتلمَّس من دون شك الشبه الكبير بين ما يشتغله «السيد»، وبين أعمال الفنان الأوكراني المعاصر «دينيس سارازين»، التي تتعدى كونها مقاربة أسلوبية في التقنيات واستخدام الألوان والاهتمام بتفاصيلها، إلى التماثل من ناحية الموضوعات والتكوينات وآلية تموضعها ضمن إطار اللوحة أيضاً، فضلاً عن الأفكار التشكيلية المتطابقة من مثل النباتات التي تخرج من الجسد. هذا ما أفقد «ليل طويل» معظم نقاط قوته، لأن استنساخ تجربة الغير الفنية أبعد تعبيرية «السيد» عن ذاتيتها، ودسامة انطلاقتها الفريدة نحو فضاءات الحرية الرحبة.