في الحرب الروسية- الأوكرانية «1»
إنّها بالفعل ظاهرة غريبة تؤكّد خروجنا عن التّاريخ الفعلي للعلاقات الدّولية؛ ثمّة تصعيد غير مسبوق لخطاب الأنسنة ونبذ التدخل، هناك دعاوى مجانية من قلب العالم الثالث المنكوب لرفض الحرب على أوكرانيا، وكأنها أوّل الحروب، وكأنّ العالم يعيش على إيقاع سمفونية السلام العالمي، ما أقبح هذه الوصلات المسرحية وما أغبى هذا الخطاب.
تضعنا روح السياسة وتاريخها في المشهد الدّولي على منحنيات القوة المجردة، عن منعطفات تكون الحرب فيها امتداداً حتمياً للتحوّلات السياسية الكبرى، إنّ الجهل بجدل القانون والقوة في العلاقات الدولية، يعززه الخطاب الإعلامي الذي ينقلب في عشرية واحدة من خطاب تمجيد التدخل إلى خطاب هجاء التدخّل.
وتكمن المغالطة الكبرى هنا، في جملة مبادئ خاطئة تتردد في الردح الإعلامي المثقل بصور الأنسنة المزيّفة. معظم إعلامنا العربي الموصول بالمصالح الإمبريالية بات في وضعية التماسيح الباكية.
ينسى المحلل السياسي الكادح في المقاولة الإعلامية المرتبطة بشبكة المصالح أو المحلل المرتزق المصطف إمبريالياً ورجعياً، بأنّ رفع العقيرة ضد روسيا، هو وقاحة سياسية بامتياز، فروسيا هي والصين التي تتضامن معها، هما دائما العضوية، أي هما حراس المبادئ الدولية.
لنلتفت قليلاً إلى الخلف لنتذكّر أنّ روسيا لطالما رفعت صوتها واستعملت الفيتو ضدّ سياسات التدخل من طرف واحد، ولطالما دعت لحل الأزمات دبلوماسياً وسياسياً.
في تلك الأثناء، كان القطيع نفسه من الإعلاميين، يتجاهل القانون في كل الأحداث التي تم فيها إسقاط دول كثيرة وإبادة شعوب تترى.
يفقد القانون قيمته ومصداقيته حين يتم اختراقه بمنطق القوّة، وحينما يصبح قضية مجزّأة، بينما مقتضى العدالة الدولية أن يكون القانون كلاً لا يتجّزأ.
ويبقى السؤال الأكبر: ما الذي يمنح القطب الغربي سلطة التدخل وفرض العقوبات من طرف واحد، بينما لا يسمح للقطب الشرقي بأن يتعامل بالمثل.
تأتي قصة السيادة، وواضح أنّ القطب الغربي ممثلاً في الناتو، قد لعب أدواراً مكشوفة وأخرى قذرة لتقويض السيادات ورهنها بالقوة.
هكذا وخلال العشريات الأخيرة بدأنا نتحدّث عن نسبية السيادة وإشكالية مفهومها في القانون الدّولي.
وهذا واضح وإن لم يتدستر دولياً، لكنه بات واضحاً من جهة العرف الدولي، فالسيادة غير متساوية، ومفهوم العدالة الدولية هو الآخر أصبح إشكالياً.
هنا وفي مثال أوكرانيا، وجب التذكير بأنّ مفهوم حسن الجوار يتعلق باحترام الاتفاقيات، وبأنّه ليس كل دولة تستحق أن تكون في مستوى جوار دولة عظمى لا تقوم سياستها الخارجية على الهيمنة.
لقد واجه القانون الدولي تحدّي الهيمنة وتداعيات السياسة الأمريكية القائمة على مبدأ مونرو، وهو ما جعل العالم في وضعية هشة من حيث الأمن والسلم العالميين.
مفهوم الأمن بالنسبة لدولة عظمى كروسيا لا يقرأ في هذا التهجّي الساذج لمبادئ القانون الدّولي. تشعر روسيا بأنّها مهدّدة في وحدتها الترابية، لأنّ القطب الغربي يسعى لتفكيكها وتحجيمها، وهو يستغلّ أوكرانيا للقيام بهذا الدّور الكبير.
قضية انضمام أوكرانيا لناتو، ليست قضية استقلال وسيادة، بل قضية تهديد للأمن الدّولي تفرضه قواعد الجغرافيا السياسية. وتقتضي السياسة مراعاة التموضع الجيوسياسي للبلدان، وبأنّ السيادة تحميها الاختيارات العقلانية التي تأخذ بعين الاعتبار المصالح الإقليمية والدولية، فوجود الناتو على الحدود المتاخمة للاتحاد الروسي، يعني إعلان الحرب وخرقاً سافراً لقواعد الاشتباك، في معادلة تتجاوز مفهوم السيادة القطرية لبلد استعمل في هذه الحرب الباردة كحصان طروادة.
نلاحظ أنّ ازدواجية الخطاب بدأت تكشف عن نفسها، حيث أصبحنا نتحدث بلغة الفصل العنصري بين ضحايا الشعوب الأخرى والشعب الأوروبي، أي إن المسؤولين في دول الناتو يتحدثون عن أنّ الحرب تكمن خطورتها اليوم في أنها تقع على شعب أوروبي، وهذا يعني أنّ الحروب التي يكون ضحاياها من الشرق الأوسط والخليج وسائر بلدان ما وراء البحار، هي طبيعية.
الحرب في أوكرانيا كشفت عن الوجه العنصري لأوروبا، كما كشفت عن ازدواجية الخطاب الإعلامي والقانون الدولي.
هناك زخم كبير لخطاب النازحين، والغزو والتدمير وحقوق الإنسان، ويكاد يغيب من وسائل الإعلام الغربية وتوابعها الحديث عن الأسباب الجيوستراتيجية لهذه الحرب، وكذلك يغيب عنها الحديث عن الأبعاد الاستقطابية والإمبريالية، وإكمال سياسة تحجيم روسيا في سياق التطلع للهيمنة على الهيرتلاند الأوراسي.
ستحاول دول الناتو فرض عقوبات من جهة واحدة، غير أنّ أوراسيا هي منطقة السيلان المالي الأكبر في العالم، وبأنّ فرض عقوبات على روسيا أو الصين في الإقليم، سيلفت الانتباه إلى تعزيز التعاون الاقتصادي بين البلدان الأكثر عرضة للعقوبات.
باختصار شديد: لا يمكن فرض عقوبة اقتصادية على دولة عظمى نووية، وفضلاً عن ذلك هي قطب في أوراسيا، وفضلاً عن ذلك أيضاً هي منتجة للثروة وفي مقدمتها الغاز.