الفنان «موفق مخول» يُصوِّر ذاكرة روحه ومكابدات وجودها
تجربة جديدة يخوضها الفنان «موفق مخول» في معرضه ضمن صالة «مشوار» الذي حمل عنوان «ذاكرة الروح»، إذ يتخلى عن أسلوبيته القديمة في النظرة التجريدية إلى الأشياء والأشخاص، مستعيضاً عن ذلك بتعبيرية متقنة، تجعل من البشر كائنات أيقونية بامتياز، فجميعهم تُكلِّلُهم هالات القداسة، ويُحيط بهم النور أينما اتجهوا، بغض النظر عما يفعلونه، فليس المهم في عُرف «مخول» الحَدَثْ التشكيلي، بقدر ضرورة إبراز العناصر المُكوِّنة لذاك الحدث، ولاسيما البشر والأُطُر التي يضعهم فيها، بحيث يبدون وكأنهم أيقونات مرصوفة على حاملها، بكامل الأناقة والهيبة والامتثال للمصير.
الباحث في لوحات «ذاكرة الروح» سيلحظ عشاءات سرية بدل العشاء الواحد، وميلادات متكررة للمخلّص، وقيامات عديدة، لكن من دون خلاص فعلي، إذ يُعلي هذا الفنان من شأن الألم، مع إبراز تراجيديات الحياة قبل أن تصل إلى مرحلة المطهر، أو الفداء، أو القيامة، لأنه يُصوِّر شخوص لوحاته بعيداً عن دلالاتها الدينية المباشرة، ويعدّها معفاة من ولاءاتها الطائفية، وانتماءاتها الروحية، وكل ما يعنيه فيها هو وجودها في خضم هذه الآلام المديدة التي تعيشها، لذا نراه يُركِّز على اجتماعها، وحوارها التشكيلي مع بعضها، وما توحي إليه من حركة ترسم مسارات العين، ولاسيما بين الظل والنور، وحرارة الألوان التي يختارها، وكأن تلك الشخصيات تعيش مخاضات ولاداتها العسيرة، وهذا ما جعل جميعها من دون ملامح، وأقرب إلى الهيئات المتماثلة، وكأن «مخول» يتقصَّد تلك المساواة في مكابدات الوجود، ودروب آلامه، فالجميع على طريق الجلجلة، بشكل أو بآخر، وكلُّهم مدعوون لوليمة العذاب، كما أنهم جميعاً شهود على قسوة الأيام، لكنهم في الوقت ذاته يتبادلون العزاء فيما بينهم من جهة، ويعزُّون مُبدعَهُم ويعزّيهم، في تبادلية للأثر الجَمالي، لكونهم واقعين في المأزق الوجودي ذاته، ولا مهرب لهم بتاتاً، لتبقى المرجعية الأيقونية في ذاكرة «مخول» البصرية هي المسيطرة، فكيف إن كانت ذاكرة روحية، مختمرة بالنور، ومُعمَّدة بالظلّ، بحيث نكاد نقول إنه يُزيّن معبدَه الخاص باثنتين وعشرين لوحة.
التَّعاطي مع قدسية الألم، والوجع الجمعي، كان من سمات أعمال المعرض، فلا تركيز على فرد من دون غيره، ولا جاذبية لأحد على حساب الآخر، فالكل متساوون حتى في علاقتهم مع عين المتفرج، ما يجعل اللوحة كلاً مكتملاً بذاته، إما أيقونسطانس كاملاً، أو عشاء سرياً كاملاً، أو مسرح ولادة كاملاً، لكنها جميعها تشترك بأن الفادي ومن سيفديهم مستقبلاً، متساوون تشكيلياً وفي وعي الفنان، فلا تفضيل هنا نهائياً، بل عدالة من نوع خاص، لأنه، حسب «مخول»، فإن «السوريين جميعهم، منذ أربعة آلاف عام وحتى الآن، منذورون للألم، ولم تقم لهم قائمة منذ ذاك التاريخ السحيق». وهذه القناعة تم تدويرها تشكيلياً، من خلال هامات بلا علامات مميزة، وتكريس للشبه من أجل تصوير تلك المفرخة البشرية المُمْعِنة في تسويغ الألم، وإشاعته. أرتالٌ وراء أرتالٍ، جماعات بجانب جماعات، وانتظارات مريرة، وأبرز ما يُميِّزها هو اشتهاءات النور، وهنا كانت لعبة «مخول» التي أتقنها، إذ رغم فداحة الموضوع الذي يُصوِّره وظلامه، إلا أنه يكسوه بأنوار ألوانه، لتبدو شخصياته مرّةً كشخصيات نورانية، وأخرى لتظهر السينوغرافيا التي وضعهم ضمنها، وكأنها أشبه بالحريق المتعاظِم، وفي مرات يتعامل «مخول» مع الألوان بروحٍ طفولية كأن يوزِّع هالات بلون أزرق وأحمر وأصفر وأخضر على رؤوس البشر المجتمعين على مائدة نور، ليبقى اللون الذهبي هو الأكثر استخداماً، لرمزيته الأيقونية في الخلود، وللإمعان في زمنية تلك الآلام، لكن مع ذلك نرى «مخول» يواظب على رسم قناطر من ضياء، كعنصر توازن، للبشر المتشحين بالسواد، وفي لوحات أخرى تسيطر الألوان الترابية على كامل المشهد مع لطخات خضراء، بينما يبقى للأصفر الشمسي بصمته الواضحة في اشتغالات الفنان، أي أن هناك تماهياً واضحاً بين الموضوع التشكيلي وفلسفة اللون الخاصة به، ما جعلنا أمام تراجيديا مستمرة لا تصل إلى تطهيرها الأرسطي إلا من خلال التفاعل مع عين المتلقي الواعية لحجم الألم المختزن في «ذاكرة الروح» الخاصة بـ«موفق مخول» الذي أهدى معرضه لروح أخيه «غالب» الذي وافته المنية خلال التحضير للمعرض.