ماذا تفعل الخيبة؟

يقول أبو حيان التوحيدي: طريقي حسك وعطائي خديعة وظاهري حسرة وباطني حيرة وحالي سراب وبنياني خراب وجرفي هائر وصوابي خطأ وبقائي حلم.
ويقول كافكا الفيلسوف الألماني: أنا من حجر، بل أنا حجرٌ لقبر نفسي لا منفذ فيه للشك أو للإيمان للحب أو للنفور للشجاعة أو للقلق على وجه التخصيص أو وجه التعميم كلا بل ثَمّ أمل واحد غامض يحيا لكنه من نوع شواهد القبور.
كلا الفيلسوفين انتهى به المطاف بإحراق كتبه.. ولبرهة نتأمل.. أي حال تدفع بفيلسوف كبير إلى إحراق كتبه أو التوصية بإحراق كتبه؟ إن واقعة حرق كتب أو مخطوطات أبي حيان وكافكا سواء بواسطتهما مباشرة أو عن طريق آخرين هو ما يجمع بين الاثنين وعلى أهمية هذا المشترَك بوصفه تعبيراً عن موقف له أسبابه العميقة والمتشعبة لدى كلٍّ منهما.
والتوحيدي في لمحة من تعريف ياقوت الحموي له في معجم الأدباء هو “فيلسوف الأدباء وأديب الفلاسفة ومحقق الكلام ومتكلم المحققين وإمام البلغاء وفرد الدنيا الذي لا نظير له ذكاءً وفطنة وفصاحة ومكنة واسع الدراية والرواية” غير أنه في الوقت ذاته “كان سخيف اللسان قليل الرضا عند الإساءة والإحسان الذم شأنه والثلب دكّانه”, أما الكاتب فرانز كافكا، فيكفي تعريفاً به اقتران اسمه بالرواية الحديثة ريادةً وتأسيساً ومن دلائل فرادته أنه أنجز كل أدبه خلال أقل من اثني عشر عاماً “وقد كُتب عن هذا الأدب في ألمانيا وحدها ستة عشر ألف دراسة بين مقالة وكتاب منها أكثر من ألفي أطروحة دكتوراه” وقد شاع مفهوم الكافكوية شأنه شأن أي مصطلح ينفتح على دخائل النفس والنص مما يأخذ من كافكا الإنسان والأديب في أطوار حياته الموسومة بالمعاناة والأزمات فضلاً عن تعيّنها كدمغة أسلوبية وطريقة كتابة.
في جوانب التقاء الكاتبين في هذه الواقعة يُستحسن معرفة أسباب إحراق التوحيدي لكتبه وإتلافها وهو ما يمكن تبيّنه من رسالته التي كتبها للقاضي أبي سهل علي بن محمد التي ترد في معجم الأدباء يقدّم صاحب المعجم لها بقوله “وكان أبو حيان قد أحرق كتبه في آخر عمره لقلة جدواها وضنّاً بها على من لا يعرف قدرها بعد موته” وإجمالاً يتضح أنّ سبب ما أقدم عليه أبو حيان ذو شقين ديني ودنيوي أما الأول يمكن عدّه زهداً أما الشق الدنيوي، فيتمثل بخيبته بمتلقّي علمه وعدم تحقيقه المنزلة التي كان يطمح. يقول: “ثمّ اعلم -علّمك الله الخير- أن هذه الكتب حَوَت من أصناف العلم سره وعلانيته، فأما ما كان سراً فلم أجد له مَن يتحلى بحقيقته راغباً، وأما ما كان علانية فلم أُصب من يحرص عليه طالباً على أني جمعت أكثرها للناس ولطلب المثالة منهم ولعقد الرياسة بينهم ولمدّ الجاه عندهم فحُرمت ذلك كلّه”. وشأنه شأن كافكا في عدم رضاه عن بعض أعماله كان التوحيدي يخشى تسقّطَ أخطائِه في كتبه والتشنيع عليه.
إنه شعور غريب نادر أن يقرر فلاسفة بهذا الحجم والإنتاج أن يحرقوا كتبهم! وتبقى أسرار هذه الواقعة بحاجة إلى الكثير من التدقيق والتمحيص والكشف عن خيبات وأزمات أدت إلى اتخاذ هذا القرار الخطير الذي لا يقل خطراً ومأساة عن قرار نيرون إحراق روما.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار