«حفرة الأعمى» لخليل صويلح.. سحر السرد وظرافة النقد
يتابع الروائي والصحفي «خليل صويلح» في كتابه «حفرة الأعمى» (دار المتوسط- إيطاليا، ودار نينوى- دمشق) ما بدأه في كتبه الثلاثة «ضد المكتبة، وقانون حراسة الشهوة، ونزهة الغراب»، من حفريات في فعل القراءة، وآليات تفعيله، والغوص في مناخاته المتعددة، لكنه في إصداره الأخير، يُركِّز على مجموعة كبيرة من الوصايا والإرشادات والمقترحات والنصائح المتخصصة بالسرد، وضرورة الابتعاد عما سمّاه “الرواية السمينة” نقلاً عن “سعيد يقطين”، من خلال تكثيف العمل الروائي وتخليصه من التخمة التي قد تصيبه، بسبب تضمينه الكثير من الحشو والوصف الفائض عن الحاجة، ويؤكد «صويلح» أن الأدب يقع في ضفة مغايرة عن سرد الواقع بحذافيره، إذ إن «أي حكاية لم تخضع لأدوات السرد، بالإمكان أن يكتبها/ يحكيها سائق شاحنة أو حلاق أو بائع فلافل، من دون عناء، مادامت تسير بالعجلات نفسها التي حدثت بها واقعياً»، لكن «إخلاصك للحكاية كما حدثت تماماً، أولى علامات الاحتضار السردي وعطب المُخيّلة»، يقول صاحب «اختبار الندم»، في هذا السياق تأتي فضيلة الحذف والمحو والتقشف لتعزيز الرؤية الجمالية، التي يقول عنها «ميلان كونديرا» إنها لا تتحدد فقط فيما كتبه المؤلف، بل فيما حذفه أيضاً. كل هذا يُحكِّم على الكاتب الروائي أن ينظر إلى سردياته انطلاقاً من نصيحة «إدواردو غاليانو» بعدم ضرورة وصف سقوط المطر، وإنما جعل القارئ يتبلَّل.
بمعنى؛ إن الكتابة ليست فعلاً يسيراً، ولاسيما أن رواية القصص تحتاج كيمياء معقدة، وليس الخيال وحده من يعمل على هواه في عملية تشكل الأحداث، وسيقع جميع الروائيين حتماً أمام معضلات سردية، حلُّها واجب من خلال الأدوات اللازمة، وإلا ستقع كارثة محققة، يقول صويلح: «أن تعيش مخاض الكتابة، فأنتَ مرتهن للشغف والاكتئاب والوحدة والإرهاق والحيرة، دفعة واحدة، تستدرج شخصيات روايتك إلى مكائد سردية محكمة، أو هكذا تظن، مثلما تستدرجك هذه الشخصيات إلى مخابئها السرية، وكأنك تعيش مخاض الفرس بانتظار ولادة مهرة أصيلة، تخرج بطمأنينة من غشاء المشيمة، لا مخاض السلحفاة التي تدفن بيوضها في الرمل، وتغادرها بلا ندم أو شكوك بمصيرها المقبل».
ولذلك ينتقد صاحب «جنة البرابرة» ما يُسميهم «الروائيين الطارئين»، الذين اقتحموا عالم الرواية عنوةً، من دون أن يمتلكوا المعرفة أو اللغة أو الخيال، ولا أدنى فكرة عن هندسة المعمار الروائي، لذا نراه يلفت إلى أنه «مثلما هناك هجرة لا شرعية ، توجد هجرة لا شرعية إلى الرواية ؛ أقصد روائيي القوارب المطاطية المثقوبة، فما أن تقطع مسافة قصيرة بين أمواج الحكاية، ستغرق حتماً بهباء الوصف وهزال رحلة السرد، وادّعاء الموقف، ولكن، مهلاً، أين التماسيح الصديقة، كي ترتكب مذبحة محقة؟».
وكما دعا «صويلح» سابقاً إلى تخليص المكتبة من فوائضها، فإنه ينوّه بضرورة الفلترة الروائية لمثل أولئك الروائيين الزائفين ونتاجهم، وخاصةً أنهم لا يعرفون أن للقصص الجيدة نقطة اشتعال ينبغي اكتشافها، ولم يستفيدوا من جدتنا شهرزاد ونصائحها في ضرورة البلاغة السردية، إذ كانت تبدأ قصصها بـ«بلغني أيها الملك السعيد»، مبدِّلة شهوة الدم لديه بشهوة السرد، لتأتي ثاني نصائحها بأهمية الأحلام في تعزيز فتنة الحكي، أو «مديح الاختلاق» الذي دعا إليه «بيار بايار» معتبراً إياه امتيازاً لا عيباً، ولعل بروز مثل أولئك الروائيين الجهلة يعود كما يرى «صويلح» إلى «موت الكاتب» بحسب «رولان بارت» وما تبعه من «موت الناقد» الذي حكى عنه «رونان ماكدونالد»، ما جعل الوضع مأسوياً. يحكي لنا «صويلح» بطرافة عالية المستوى: «اعتادت إحدى الروائيات أن تهدي ناقداً عجوزاً ومتصابياً رواياتها مرفقة بعلبة بقلاوة في طرد أنيق، فكان «ناقد البقلاوة» يرد التحية، في كل مرة، بأحسن منها، مُتلمِّظاً بطعم السمن العربي، وهو يسيل من السطور».
المأساة لا تتحدد فقط من خلال روائيي الغفلة،، ويجعل الكُتَّاب أمام مهمة صعبة في سرد قضية اللجوء مثلاً التي تعدّ إحدى أهم وشوم القرن الحادي والعشرين، وهناك إلى جانب اللجوء، الموت المجاني، وتجارة الأعضاء، وبتر الهوية، واقتتال ورثة الدّم، وغير ذلك الكثير ما يجعلنا بحاجة حتمية «إلى كافكا آخر بقيد نفوس محليّ» بتعبير صاحب «وراق الحب»، خاصةً بعدما بتنا «نقرأ كافكا كما لو أنه واحد منا، يقطن في الشارع نفسه، ينطق بما لم ندونه عن القهر التاريخي، وتفاهة العالم، وأسباب السخط، بأقصى حالات اليأس والسوداوية والاغتراب». كل ذلك وغيره الكثير من خلاصات لها علاقة بالسرد يحكيها لنا «خليل» وفق عجينة يخلط فيها سحر السرد بظرافة النقد، مُحذِّراً إيانا من دَلْق المقادير كيفما اتفق ضمن المطبخ الروائي، بل الانتباه إلى كل التفاصيل: جلب المكونات الطازجة، وتحديد كمية التوابل المطلوبة وغيرها من المنكهات، مع مراعاة درجة الحرارة وزمن الطهي، لأنه من دون ذلك كله ستحترق الطبخة، وتتحوّل إلى كتلة فحم سوداء.