مأمون الخطيب في عرضه الأخير.. «أكبر دُبّ تستطيع أن تُروِّضه امرأة»
لا تَخْفَى علاقة المحبة التي تربط المخرج «مأمون الخطيب» مع نصوص «أنطوان تشيخوف»، إذ درَّسها وحلَّلها مراراً مع طلابه في المعهد العالي للفنون المسرحية، إضافة إلى أنه خريج المدرسة الروسية، لكن منذ إعلانه عن الاشتغال على نص «الدب» برؤية سورية، بقي التساؤل يلحّ حول الكيفية التي سيتم بها تقديم تلك «الفودفيل» التي وصفها تشيخوف نفسه بأنها «ترللا»، أي كانت بمنزلة استراحة ولهو كتابيّ بالنسبة إليه، بعد إنجاز قصته «السهوب»، وما هي الآلية التي ستجعل من نص تشيخوف بنكهة محلية، من دون لَيْ عنقه أو تشويه ملامحه الأساسية؟.
أولى إشارات الهوية فيما قدَّمه «الخطيب» على خشبة مسرح الحمراء ضمن إعداد دراماتورجي مع “طارق مصطفى عدوان” كانت في استبدال أسماء الشخصيات الرئيسية بأخرى سورية، إذ باتت الأرملة «إيلينا إيفانوفنا بوبوفا» هي «تمارة.. زينة المصري»، بينما «غريغوري ستيبانوفيتش سميرنوف» أصبح ببساطة «سمير الراعي.. وسام محمود»، في حين استبدل الخادم لوكا بالعمّة «ليليت.. رنا جمول»، بلا أي تغيير في سيرورة الحكاية ذاتها، إلى جانب ترك الحوارات كما جاءت في النص الأصلي، مع إضافة القليل من العبارات التي عملت على تجديل الأحداث الرئيسية للمسرحية بالوضع السوري الراهن، من دون أن نشعر بأنها دخيلة على نص «الجلف» كما يترجمه البعض، إذ على ما يبدو أن «جلافة» الطباع البشرية تتواءم بسهولة مع قسوة واقعنا المعاصر، والأهم هو ما حققه مخرج مسرحية «بوابات» من تسخير تلك المواءمة كوميدياً، بحيث لم يخرج عن الروح التشيخوفية في لهوها الذي أضحك سابقاً «ليف تولستوي» بحد ذاته، إذ لم تكن الأجواء المأتمية التي تلفُّ الزوجة وحياتها بعد وفاة زوجها «رياض» (في النسخة السورية) هي المسيطرة، أو هي محور الحدث، بقدر ما كانت مُقدِّمة لإبراز الزيف الاجتماعي، وهشاشة تقاليد الحزن، ورياء المظاهر، وفق مفارقات مستمرة، وجَدَل متواصل، أفضى إلى مواقف كوميدية مُبهرة، حرَّرت الحب الكامن والمختبئ وراء الطِباع الخادعة.
إذ بين ضرورة التزام الزوجة بأحزانها وطقوسه السوداء، في العزلة ضمن المنزل، وإسدال الستائر، ومناجاة صورة الزوج المتوفى، واستذكار جماليات الماضي في أغنية «شو كانت حلوة الليالي» كافتتاحية جميلة للعرض، وبين لَوم العمّة لتمارى بأهمية الخروج من بوتقة الأحزان، وأن «الحي أبقى من الميت»، وضرورة الاهتمام بشبابها قبل أن يذوي، وما إلى هنالك، تتفجر المفارقات بأن ذاك الزوج كان خائناً ولعوباً، والزوجة على علم بذلك رغم مداراتها لمرارة خيانته عليها. وتزداد سطوة المواقف الكوميدية مع «سمير» الذي يخترق حصن أحزان الزوجة لاستيفاء دين له عند المتوفّى، بسبب حاجته الماسة له لدفع أقساط مترتبة عليه للبنك الحكومي، وبين صدٍّ وردّ، بأنها ستدفع له مستحقاته لكن بعد عدة أيام لحين مجيء المسؤول المالي لأملاكها، وإثر مجاهرات ومكاشفات، يؤكد الزائر أن كل أحزان «تمارى» ما هي إلا قناع زائف، بدليل اهتمامها بماكياجها وملابسها السوداء الشفافة وعطرها ومُتمِّمات أنوثتها وجمالها، ليصل الأمر في نهاية الجدل إلى حرب كلامية لا تلبث أن تتحول إلى مواجهة بالسلاح، لكن «تمارى» جاهلة بكيفية إطلاق النار من المسدس، و«سمير» بخبرته العالية بالأسلحة يقوم بتعليمها كل ما يلزمها لقتله، ضمن موقف كوميدي عالي المستوى، لكنه في خضم ذلك يكتشف أن جمالَ «تمارى» قتله قبل سلاحها، وأنه انجذب إليها انجذاب العاشق المتيم، رغم تجاربه السابقة مع النساء بحلوها ومرها، ولتكتمل دائرة الموقف، نكتشف أن الزوجة المحزونة، تقع هي الأخرى في حب «سمير» الذي سبق أن وصفته بالدُّبّ لأنه لم يراع مشاعرها، لينتهي العرض بمقولة جانبية فحواها بأن «أكبر دُبّ تستطيع أن تُروِّضه امرأة».
الحكاية على بساطتها ما كانت لتحقق التفاعل المرجو منها مع جمهور صالة الحمراء، لولا أداء الممثلين الذي أراده المخرج «الخطيب» مشغولاً وفق كاريكتايرية فاقعة، بما فيها من مبالغة وردود أفعال قاسية على صعيد الحركة خاصةً، وأسلوب في الكلام، إلى جانب استخدام «سمير» لصوت مستعار، فضلاً عن أزياء أبرزت ظاهرياً التناقض بين أرستقراطية الزوجة وعمّتها من جهة، وبين زائرهم بكرشِه العارم والذي يتحلى بعدم مواربة الحيوانات التي يُربيها ويتاجر بمنتجاتها، وكل ذلك ضمن سينوغرافيا مميزة لـ«نزار البلال» و«ريم الشمالي» قلَّصت مساحة خشبة الحمراء لتصبح بمنزلة غرفة جلوس لعائلة برجوازية، مليئة بالستائر المسدلة التي تنفتح مع بداية الحكاية، وتنغلق مع نهايتها، مع إضاءة «صممها مجد مغامس» تواكب الحدث من دون مبالغة في تزويقه، مثلها مثل موسيقا «رامي الضللي» التي مرَّت عفو الخاطر، فاللعبة الأساسية في هذا العمل هي من نصيب الممثلين سواء «رنا جمول» صاحبة الرصيد الكبير من محبة الجمهور، وزينة المصري ووسام محمود في أول عروضهم الاحترافية على الخشبة، الذي انتهى بقبلة كسرت حواجز اختلاف الطباع البشرية.