«شمس ومجد» لأسامة غنم.. سيكولوجيا الإنسان المقهور
بين التمرد والاستسلام، السيطرة والرضوح، الطمأنينة والقلق، ينسج «أسامة غنم» وأعضاء مختبره المسرحي، دواخل شخصيات عمله «شمس ومجد» الذي عُرض مؤخراً ضمن مسرح فواز الساجر (الدائري) في المعهد العالي للفنون المسرحية، وضمن تلك المتناقضات تتناسل حكايات سبع شخصيات بكل ما تتضمنه من الألم والأمل، الحزن والفرح، الحرب والسلام، الخيال والواقع، ليبقى أهم ما يجمعها، تجسيدها الهائل للقهر على مستوياته كافة، الاجتماعية والاقتصادية والنفسية والجسدية والمعنوية.
فـ«شمس.. آية محمود» تعمل في خمّارة يُديرها «مارسيل.. فادي حواشي»، وهي في الوقت نفسه هاوية تمثيل تتدرب في أحد معاهد جرمانا التي يُديرها المخرج المسرحي « يجسده ينال منصور»، وتبقى شمسُ روحِها غائبة مادامت راضية بوجودها على هامش الحياة، سواءً منها الواقعية أم المتعلقة بشغفها في أن تصير ممثلة، ولا تبزغ خيوط النور لديها إلا عندما تكفّ عن المهادنة، وتجابه قهرها، فنراها مرةً ترفض ديكتاتورية المخرج المسرحي وتعليماته عن الجنوح بالخيال وراء «التلال البيضاء» مسرحية همنغواي التي يشتغلان عليها، وأخرى تواجه تسلُّط الممثلة النجمة «جوليا.. نانسي خوري» عليها، وإهاناتها المتكررة لها، فتقلب تسليمها بضعفها إلى قوة كامنة تحررها، وتجعلها ترفض استسلامها للألم، ولاسيما المعنوي منه، وفي أخرى تتخلى عن أمومتها لأختها «مجد.. جنى العبود»، وتتسلط عليها وتحاول إخضاعها لتغيُّر رؤاها المؤقت في الحياة. بينما نرى «مجد» تسعى لفهم «سيكولوجيا الإنسان المقهور» من خلال تطبيق ما تدرسه في دبلوم علم الاجتماع وقراءاتها لمؤلفات الدكتور مصطفى حجازي، على ما تُعايشه في المقهى الذي تعمل فيه نادلةً، وفق مقاربات مستمرة بين السيد والعبد، الزبون والعامل، المستبد والخانع، وبين الرضا والخذلانات المتكررة، الحلم والواقع، وذلك عبر حوارات مع زميلها في المقهى «طارق بن زياد.. جان دحدوح» الذي فتح أندلُسَها النَّفسي- إن صح التعبير- وساعدها بعفويته وطيبته وعُمق إنسانيته وألمه في تحقيق رؤية أوضح لعمق المأساة البشرية التي نعيشها خلال مداورة الحياة، ومداواة انكساراتنا المديدة وأحلامنا الموءودة، والموت المُعشِّش في تفاصيل يومياتنا. أما «الممثلة جوليا» فتائهة بين حياة مُرفَّهة وصاخبة تعيشها بحكم نجوميتها التلفزيونية في مسلسلات البيئة الشامية على تفاهتها، وبين رغبتها في استعادة شغفها بالتمثيل على خشبة المسرح، واسترجاع شغفها الموازي بحياتها السابقة على بساطتها، لاسيما بعد تجربة حب غير مكتملة مع أحد أبناء دفعتها في المعهد العالي للفنون المسرحية، ومحاولتها التعويض عن خساراتها بالتخلي عن الشرط الفني اللائق لها كممثلة، مقابل المزيد من الشهرة والمال، وهذا ما حوَّلها إلى مُتسلِّطة على مَنْ حولها، وهوائية المزاج، بسبب قهرها الدفين الذي يُفجِّره المشروب في كل مرّة تزور فيه البار الذي يديره «مارسيل»، وتعمل فيه «شمس»، ويرتاده زميلها «الممثل غيث.. علاء زهر الدين»، وهو ما جعلها تفشل في إعادة علاقتها بالمسرح مع زميلها الذي يعدّ مسرحيته عن نص لهمنغواي، بعدما استأجر مكاناً في جرمانا ليستثمره في التدريب والعرض فيما بعد، والأنكى هو فشلها في توضيب علاقتها بزملائها وأصدقائها، ولو من خلال تأمين أدوار لهم في التلفزيون، فالعطب تبادلي بين عملها وحياتها، ويؤثر كل منهما على الآخر، ويُمعِن في تخريبه. بينما تكمن مأساة «مارسيل» في تفكيره الدائم بمآلات الفرح وسيرورته، بين الماضي والحاضر، وامتثاله لواقع مهنته، واستسلامه لهواجس زبائنه، وخاصة ممن تحولوا إلى أصدقاء، وأشركوه في أحد الأدوار التلفزيونية في مشهد تحولت فيه محاولة إجلاء المحتل إلى ما يشبه «المجزرة المهنية»، بعدما استخدموا بالخطأ قنبلة صوتية أدت إلى جروح في صفوف الممثلين، في حين أن الممثل «غيث» الطارئ على المهنة، ضائع بين وسامته ونهمه للأكل والحياة.. مشاهد متداخلة، استمرت ثلاث ساعات ونصف الساعة، وحوارات رغم بساطتها الظاهرية، إلا أنها تتغلغل عميقاً في تشريح القهر، وتبيان أشكال العلاقة «السادومازوشية» التي تحدث عنها «مصطفى حجازي» في كتابه «التخلف الاجتماعي ..
مدخل إلى سيكولوجيا الإنسان المقهور»، إذ إن جميع شخصيات هذه المسرحية تتناوب التسلط والقهر، والإمعان في زيادة المعاناة المادية والجسدية والمعنوية للطرف الآخر، مع إن كل شخصية في ساديتها هربٌ من مازوشيتها الداخلية، وفي مازوشيتها ورضوخها واستعذابها الألم خشية من ساديتها التي تخشى توجهها إلى الخارج، وهو ما أغنى عوالم الشخصيات، وجعلها أرضاً خصبة للأداء الطبيعي الذي أجاده الممثلون السَّبعة، مُشركين الجمهور في تفاصيل حيواتهم وحكاياتهم المجدولة بعناية وحب من دون تكلُّف، وإنما ببناء درامي متين، وبأسلوب معايشة فائق في اهتمامه واحترامه للمتلقي، بحيث تمر بسلاسة انقلابات الشخصيات على ذاتها وعلى من حولها، في صراعها لفهم مغزى كل ذاك القهر المتغلغل في نفوسها، وفي عتابها المستمر لما آلت إليه أحوالها، وفي مجابهتها سطوة الواقع ورحلة آلامه المديدة، وفي تصويرها المتقن لـ«حيونة الإنسان» ونبشها لطبقات الوحشية التي تسم حياتنا، إلى جانب توثيق العبثية التي طالت يوميات الإنسان المعاصر، على اختلاف تصنيفاته، بين الجلاد والضحية، القامع والمقموع، المتسلّط والضعيف، الحاكم والمحكوم.. كل ذلك ضمن تقشُّف في الديكور والموسيقا (صوت محمد هواري)، والإضاءة (نواف عطواني وهايدي فرج شمة)، من دون أن يُلغي ذلك بلاغتها العالية، وقدرتها على إكمال مَشاهد القهر بلمسة جمالية تُشبه كثيراً أجنحة الملائكة المرسومة بالطباشير على الجدار الأسود في عمق المسرح الدائري، والتي ستبقى مطبوعة في الذاكرة رغم إنها فقدت الكثير من وضوحها في نهاية العرض.
يذكر أن فريق المسرحية مكون أيضاً من مخرج مساعد: ديما أباظة، دراماتورج مساعد: لينا الرواس، مساعد مخرج: ربيع محمد، علاقات عامة: عروة محمد، خدمات إنتاجية: بلال عمرين، فيصل محمد وكامل مرزوق.