مسرحية «كاستينغ» .. تشريح القهر!
يواصل المخرج سامر إسماعيل تلقيح المسرح بالسينما، كثيمة رئيسية في أعماله المسرحية الثلاثة، والظاهرة من عناوينها «ليلي داخلي»، «تصحيح ألوان»، «كاستينغ.. تجربة أداء»، لاعباً في المسافات الإبداعية المشتركة بين الفنّين، محاولاً صهر السيناريو بالنص المسرحي، ووضع الجمهور أمام ما يشبه لقطة عامة للخشبة، حيث يتحول كل ما عليها إلى شريط من الأحداث المتتالية، لتأتي تقنية المونتاج السينمائية متواءمةً مع «الميزانسين» المسرحي في رسم الحركة على الخشبة، وتعزيز قدرة الفعل عبر مفصلة الزمن بدقة، وتحقيق نوع من المَعيش الخاص لممثِّلِيه، بهواجسهم وهمومهم، أوهامهم وأحلامهم، أمام المتفرجين.
وفق هذه الروح ينسج إسماعيل آخر مسرحياته «كاستينغ.. تجربة أداء» على خشبة القباني، متأنياً في إشراك المتلقي منذ اللحظات الأولى لدخوله إلى الصالة مع ما يُريده، فالممثل عامر علي الذي يجسد شخصية «المخرج السينمائي جو» كان على الخشبة منذ البداية، يُقلِّب على كمبيوتره المحمول مَشاهد من أفلام عالمية تركت أثرها على وجدانه، ونشاهدها معه على شاشة احتلت جدران المسرح الثلاثة، وبعد متابعتنا مقاطع من أفلام فرنسية وإيرانية وإسبانية (تصميم المادة الفيلمية «طارق عدوان»)، يبدأ الحدث الرئيسي بدخول فتاة «دلع نادر» من أجل تجربة أداء أمام ذاك المخرج عصبي المزاج والمتأخر عن موعد مع جهة الإنتاج لفيلمه الذي يحضره، من دون أن يوفق حتى الآن باختيار بطلة الفيلم، وبعد إقناع تلك الصبية للمخرج بأن يمنحها بعض الوقت لأنها أتت من مكان بعيد، تبدأ عملية «الكاستينغ»، ونكتشف معها شيئاً فشيئاً هواجسها وأحلامها في الشهرة والمال والحياة الأفضل، من أجل مداواة أمها المصابة بالغرغرينا، ومعرفة مكان قبر والدها، وبغية العيش بهدوء بدل صخب العشوائيات المتغلغلة في المسكن والعلاقات والأخلاقيات المجتمعية.
تتصاعد الحكاية مع تغلغل مجموعة من الانتقادات الساخرة من ورشات فن التمثيل والكليشيهات التي يلقنها المدربون الجهلة لطلابهم، ولشركات الإنتاج التلفزيونية واستغلالها نفسياً وجسدياً لرغبة الفتيات بالظهور على الشاشة، وتتحول جلسة «الكاستينغ» إلى حوارية في شؤون فن التمثيل وهمومه، وأهمية المعايشة فيه وفق منهج «ستانسلافسكي» وغير ذلك، لتبدأ لعبة جديدة من خلال تجسيد الممثلة الشابة شخصية البطولة في فيلم «المخرج جو» الذي بدأ شحذ طاقة أدائها وتسخير انفعالاتها الشخصية من أجل إدغامها في روح بطلة العمل «جوليا»، مستعيناً بالخذلانات التي عاشتها الفتاة البسيطة وجعلتها مُحطَّمة، إذ يتقمَّص المخرج شخصية حبيبها «جهاد» الرسام الذي تركها وسافر وحيداً، وهنا تبدأ جملة من الانتقادات المتعلقة بتلقي المجتمع للفن التشكيلي، وتفكيك شيفرة الجسد تشكيلياً، عبر الاستعانة بمجموعة من لوحات «يوسف عبدلكي» في معرضه الأخير للعاريات، إلى جانب مجموعة أعمال لكل من «سعد يكن» و«سبهان آدم» عُرِضت جميعها على شاشة في عمق المسرح، وفق تصعيد درامي في مصير الشخصيات وأقنعتها، إذ إن «المخرج جو» انتقل من كونه حبيبها الرسَّام الذي رسمها وهي عمياء بعد تفجير أعطب عينيها، مروراً بالرفض المتبادل بينهما بعد عودة البصر إليها، واكتشافها حبّه المصلحي لها، ثم تحوَّلَ بتقنية القناع إلى «عجوز نفسُهُ خضراء» قام بالاعتداء عليها بعدما دسَّت إحدى خادماته منوماً في قهوتها عندما كانت مندوبة مبيعات لمساحيق التجميل، لتنتهي لعبة الأقنعة إلى صدام واقعي بين المخرج وممثلته، بعد رفضه لها بذريعة عدم احترافيتها في التمثيل، فما كان منها سوى إيهامه بأنها رمت في وجهه «ماء النار» وشوَّهته، بعدما حاول بحجة التمثيل مداعبتها، لتكشف له أن ما رمته عليه لم يكن سوى «ماء شرب»، وفي خضم انفعالاته القصوى يُطرَق الباب وتدخل «زوجة المخرج.. مجد نعيم»، لنكتشف أن كل ما رأيناه حتى الآن هو خيالات «المخرج جهاد» في صناعة فيلم من كتابته، وأنه مريض وهو يرفض تداول دوائه المُهدِّئ، وذلك عبر سينوغرافيا متقنة لـ«أدهم سفر» وديكور «محمد كامل»، إذ رُفعت الشاشات مع على جدران المسرح، لتظهر ملامح منزل الزوجية، وكيف وضَّبه المخرج على هواه، صانعاً من منشر الغسيل وعاكس شمس السيارة ما يشبه عاكس إضاءة سينمائياً، وكيف جعل أحد كفوف الفرن مع مساحة الأرض ميكروفوناً، وكأن «إسماعيل» في هذا المشهد كسر الوهم بالواقع، لاسيما بعد إخبار الزوجة عن رفض اللجنة الفكرية لفيلمه الذي يقدمه منذ عشر سنوات، طالبين منه كتابة شيء جديد، وأنها بمجرد حصولها على قرض ستشتري له كاميرا حقيقية، لكن «المخرج جهاد» ظلَّ متمسكاً بأوهامه حتى اللحظة الأخيرة.
عرض «كاستينغ» شرَّحَ ببلاغة ثنائيةً الواقع والحلم، وما يرافقهما من قهر، تاركاً المتفرجين في أقصى درجات الانشداد لحكايته، رغم أنها بدت مُفككة في بعض مفاصلها، لكن ضبط الزمن المحكم، والمفاجأة الأخيرة في سيرورة الحكاية، أعادا ترميم الشرخ بين تفاصيلها، لتكتمل اللوحة في تلاقحها السينمائي المسرحي، وفق رؤية تُعلي من شأن التقارب والتآلف بين الفنّين، على أغلب الصعد، ولاسيما روح المحبة التي تلفُّهما، وتُحقِّق مقولة ابن حزم الأندلسي في طوق الحمامة، التي تبنَّاها مخرج العرض، «والمثلُ في مِثْلِه ساكن».