«أورفيوس» يُعيد «يوريديس» إلى عالم الأحياء على هيئة «لين جناد»
أقل ما يُقال عن الحفل الذي أحيته عازفة البيانو «لين جناد» مع أوركسترا «أورفيوس» بقيادة المايسترو «آندريه معلولي» بأنها غيَّرت نمط أداء الموسيقا الكلاسيكية، مبتعدةً قدر الإمكان عن الصورة التقليدية الرصينة التي تفرضها مجموعة من المقطوعات مؤلفة منذ أكثر من مئتي عام، ومتخلِّصةً من هالة القداسة التي تُحيط بها وبتوزيعها، فما فعلته «جناد» هو نوع من خلخلة الذائقة الكلاسيكية، وتثويرها عبر الدمج بينها وبين الموسيقا اللاتينية بإيقاعاتها الحيوية وفرحِها المُتجدِّد، تاركةً مهمة التوزيع للمبدع «ناريك عباجيان» الذي ساهم في إعادة خلق الصلة بين الآلات الإيقاعية والوترية والنفخية بروح مغايرة، بحيث يأتي البيانو كمُحرِّض على الفرح والتجديد، ومن دون أي تكلُّف زائد.
منذ مقطوعة الافتتاح بدا الاختلاف واضحاً عن السائد في أداء «السيمفونية الخامسة» للمؤلف الألماني «لودفيغ فان بيتهوفن»، فالإيقاع سيد الموقف، ويحيل إلى روحية جديدة من خلال آلات البيركشن المختلفة، والطبول اللاتينية، التي اندغمت بجمالية عالية مع نقرات البيانو الحيوية وجوقة الكمانات وآلات النفخ، لتنتقل الأمسية إلى «سوناتا رقم 17» بحركتها الثالثة للمؤلف ذاته، ومن ثم مقطوعته «من أجل إليزه»، وفي هذه المقطوعات الثلاث تكشَّفَتْ معالم موسيقية جديدة للتوليفة التي أرادتها «جناد»، بعزفها الأشبه بالرقص مع النغمات، بمعنى أنها كسرت حتى الصورة النمطية لعازفي البيانو التقليديين، بثباتهم ورزانتهم المعتادة، فالموسيقا هنا تتحرَّك، وتُحرِّك معها مشاعر المستمعين، وهي وإن كانت هادئة في بعض الأحيان، لكنها مُثَوَّرَة ومُثَوِّرة للأحاسيس الداخلية، وداعية إلى الفرح ومتعة من نوع خاص، استمرت من خلال مقطوعة «سرينادة» للمؤلف النمساوي «فرانز شوبرت» بكل ما تتضمنه من تودد وتحبب طغى على أجواء مسرح دار الأسد للثقافة بدمشق، وكأننا أمام موسيقا توفِّق بين الأرواح المتعبة، وتفتح نافذةً من اللطافة الموسيقية إن صح التعبير.
انتقلت مناخات الحفل بعدها إلى نفحة خاصة من الدراما، عبر أداء «أغنية من أوبرا كارمن» للملحن الفرنسي «جورج بيزيه»، وهنا باتت الموسيقا أكثر تصويرية، وحاملةً في خباياها الكثير من الأسطرة، فلا يلبث اللحن أن يتأجج بالحيوية الصارخة، وفق هارموني مدروس بين البيانو مع الإيقاع والصنوج وآلات النفخ وأقواس الكمانات والتشيللو، ليستمر الوضع ذاته عبر «رقصة فالس» معاصرة للمؤلف الروسي «ديمتري شوستاكوفيتش»، تخللتها الكثير من الرومانسية، والشغف الذي بدا واضحاً عبر اندغام «جناد» مع آلتها، ومن خلال الضبط المحكم لـ«معلولي» لجوقة الآلات التي يقودها.
تلا ذلك أغنية «عيون سوداء» للألماني «فلوريان هيرمان» على إيقاع الفالس المليء بالحيوية، والذي سمح للعازفين بنوع من الغزل الشفيف على آلاتهم المختلفة، بحيث تتعانق النغمات كما يتعانق الحبيبان في رقصهم، وكما تتلاقى عيون العشاق.
الأجواء الموسيقية المغايرة استمرت من خلال «السيمفونية الأربعين» للنمساوي «فولفغانغ أماديوس موزارت» المتصاعدة في غيِّها، وجماليات تصويرها، وتعزيز الأصوات العالية بعد لحظات الصمت، وكأنها ترسم مسارات خاصة للملحمة الموسيقية الفذة، وفي الوقت ذاته تتيح لعازفي فرقة أورفيوس التحليق مع النغمات، وللكورال بأن يثبت أن الحنجرة الإنسانية من أفخم الآلات الموسيقية، ولا تتفوق عليها أي آلة مهما حسن أداء عازفها، لتختم «جناد» مع الفرقة أمسيتهما بـ«رقصة هنغارية» للألماني «يوهانس برامس» أثبتت من خلالها أن قداسة الموسيقا الكلاسيكية لا تتأتى من قِدَمِها، ولا فقط بقدرتها على مجابهة الزمن والعيش فيه بصيغة المضارع المستمر، وإنما عبر السعي للامتلاء بجوهرها العذب، والفهم العميق للدُرَر الكامنة في كنوزها الباهرة، والارتشاف من الصوت الهائل لمعزوفات «أورفيوس»، غير القادر على النظر إلى حبيبه «يوريديس» في طريقه من عالم الأموات إلى عالم الأحياء كي لا يفقدها إلى الأبد.
هذه الالتفاتة من التجديد لاقت استحسان جمهور “الأوبرا” الدمشقية وتصفيقهم الحار، لاسيما في ظل المتعة العالية والاحترافية في تقديم تلك المقطوعات، فضلاً عن الجماليات التي حققها «أدهم سفر» في إخراجه للحفل وتصميمه للإضاءة ولما تضمنته الشاشة في عمق الخشبة من مواد غرافيكية تناسب أجواء كل مقطوعة، وتتكامل معها، لنكون أمام مجموعة لوحات مكتنزة بالجمال والروح العالية، نستطيع معها القول بأن «أورفيوس» نجح مجازياً بإعادة «يوريديس» إلى عالم الأحياء مجسدة بـ«لين جناد».