قال له الموظف المختصّ بحركة ميكانيكية حتى من دون النظر في عينيه مباشرةً وبكل البرود المعتاد في التعامل مع المراجعين (وكبار السنّ والمهمّشين ومَنْ يبدون كمَنْ مرّت مِدحلة الزمن فوقهم): “لا نوظّف من هم فوق الخامسة والأربعين يا عمّ، لكن بما أنك مصرّ على طلبك ورغم إنني لا أعدك بشيء اذهبْ واجلبْ لنا الأوراق التالية:«بيان عائلي، ورقة لا حكم عليه، سند إقامة أو نسخة مصدّقة من عقد الإيجار الأخير، وثيقة تبرّع بالدم، طابع شهيد، طابعان ماليّان، وصورة شخصية حديثة».
لكن «أبو خضر» ببساطته المعهودة وقفَ مصعوقاً بوجهٍ متجهّمٍ وجسدٍ هزيل يكاد ينقصم وقال بصوتٍ يجرش مثل طاحونة البرغل: “ليش كل هاد!؟… شوف يا عين عمّك” بخصوص البيان العائلي عندي ستة أولاد الكبيرة في (البكالوريا) والصغيرة في الصف الأول يكادون يأكلونني أنا وأمّهم من قلّة الحيلة وفقدان «المونة» و«غول» الأسعار و«ثعالب» بيوت الإيجار.
وبالنسبة لورقة اللاحكم عليه فحكمي الوحيد هو أنني لم أرتكبْ جريمة الانتحار حتى هذه اللحظة، أما عن ورقة غير الموظّف فلو أنني موظّف لما وجدتني أسجّل على وظيفة مستخدم من وزارة لوزارة أو حارس ليلي من باب شركة إلى باب بناية.
أمّا عن دمي ودمّ أولادي فأنا أقدّمه مرة واثنتين وثلاثاً كرمى شربة ماء من الشام و”فِدوى” (كاسة) شاي أشربها مع العائلة والأهل في (ضيعتي) التي هُجّرت منها منذ 8 سنوات.
وبدلاً من طابع الشهيد سأهديكم صورة ابني الذي استشهد في حلب، وأمّا عن صورتي الشخصية الجديدة، فـ«شوف يا عين عمّك»: هذا العبد الفقير لله الذي أمامك بشعر «شايب» وثياب «مجعلكة» وأسنان مثل صواعد ونوازل مغارة «الضوّايات» في طرطوس… كان يلوِّع نساء الضيعة بـ«زوالف الخنافس» و«بنطلون الشارلستون» و«كالونيا ماركة بروت» كنت أجلبها معي من «شارع الحمرا بنصّ بيروت»… وأهمّ من كل هذا يا بني أنني كنت أمشي ورأسي مرفوع وكرامتي «معبّاية الدنيا» من دون الحاجة لأن «أشحد» وظيفة من هنا وهناك.