مختبئاً في ساحةٍ خلفيّة من حيّ القصور الدمشقي، وراء جدار عالٍ طرّزته الألوان والمشغولات الدَّقيقة من الرُّسوم والمرايا، على عهد الجدّات وهنّ ينسُجْن الملاءات ولُحْفِ الأطفال في ليالي الشّتاء الطويلة، وهنّ يسامرن نارَ الحطب وعويلَ الرّيح وهسيسَ الذكريات! بوّابتُه مثل أبواب دمشق العتيقة، منخفضة، لا تُفصح عمَّا وراءها من كنوز، لكنها تقبض على من يعبر عتبتَها كأنها حضنُ حبيبٍ مشتاق، وتقوده في ممرٍّ يقيم فيه بيانو، ثم بيانو آخر، يحاذيه كرسيٌّ عتيق، ينتظر عازفاً حاذقاً محترفاً، رغم أنه يحمل متاعبَ قَرنٍ من الزمان! لكنّ الزّائر لن يتلبّث طويلاً في ذلك الممرّ، تعِدُه نفسه، بذلك، حين سيُقفل راجعاً بعد أن يتلمّس بحواسّه كلّها، محتويات هذا المتحف الموسوم بتعريف: “المتحف المدرسيُّ للعلوم”!.
مرحباً بالغابات النائمة في هذا المتحف! أيائل وغزلان وفيلة وأسود وزرافة ومها وعاجٌ وأغصان يبست لكنها لم تمُت بل حضرت مع رفاقها من غابات بعيدة لا مثيل لها في سورية، التي تشبه الحديقة الغنّاء، لأنها على خطوط الاعتدال، وليست وسط أفريقيا، التي قالت الصّور الفوتوغرافية الموزَّعة على الجدران بوجوه فتياتها وأطفالها العراة من الملابس، المتزيّنين بالخرز، إنها حاضرة هنا في قلب دمشق لسبب ما! ومن دون دليلٍ عارفٍ يشرح ويفسّر للزّائر، ستحكي لوحةٌ مكتوبة بخطٍّ عربيٍّ جميل سرَّ المكان: هذه المحنّطات صادها “حسين الإيبش” منذ مئة عام وأحببنا أن نحتفظ بها للقيمة العلميّة، ويسبق ذلك اعتذارٌ ينتصر للحفاظ على البيئة الحيوية في العالم!
من أحدَثَ هذا المتحف هو الأستاذ “موفق مخّول” الفنان التشكيلي الذي رأى دمشق بكلِّيتها، منزلاً صغيراً يليق به التَّجميل واللَّوحات الجداريّة، فأعمل ريشته وألوانه وخيالَه وهو لا يكفُّ عن التَّجوال في شوارعها وأزقّتها وساحاتها، ويروي أنه حين رأى مقتنيات الرحّالة “حسين الإيبش” وهي من الهند وأفريقيا، عمَد إلى إخراجها إلى النّور مع حفيد الرحّالة “حسين” الذي غامر بطريقة فريدة لإحضار حيوانات كنا نسمع بها في الحكايات فقط!
تروي سيرة “الإيبش” أنه دفع أموالاً طائلة في رحلاته، وفي نقل صيده إلى لندن من أجل التَّحنيط، ثم إعادته إلى سورية وحفظه، لكنّ جهدَ إخراج هذه المحنّطات من المستودعات ورصفها في متحف، لا يقلُّ قيمة عن تنقُّلها بين أربع قارات! وإن مئة عامٍ تفصل بين علَميْن سوريّيْن بارزين تبدو مثل ومضة في عين الزَّمن الحضاريّ، حيث تطلّع كلُّ واحدٍ منهما إلى زمنٍ إنسانيٍّ بعيدِ المدى رغم عدم التَّلاقي إلا على عتَبة النافذة السوريّة الفسيحة!
في “المتحف المدرسيّ للعلوم” سيرى الطّفل أبطالَ الحكايات دون غموض، وكذلك الأدوات الزراعيّة البدائيّة، التي اشتغل عليها الأجداد ليأكل خبزاً ويقتات زيتاً، وسيقف أمام مجلّدات الصّحف القديمة ومصنّفات القيود المدنيّة، ولا أشكُّ في أنه سيركض إلى البيانو العتيق، وهو يغادر ليجرّب العزف على سبيل فاصل الختام، ويا له من ختام لزيارة لا تُنسى!.