ما يضعه التاريخ الكلاسيكي بين أيدينا بخصوص الهجرات القديمة من الجزيرة العربية إلى إقليمي العراق والشام يعجز عن رسم صورة تقريبية للعلاقة التي استمرّت آلاف السنوات بين شتى أرجاء الجزيرة العربية، وبين شمالها العراقي والشامي، في مراحل ما قبل الإسلام.. الشام والعراق استمرار جغرافي طبيعي للجزيرة العربية، ويمكن جعل الجزيرة العربية امتداداً جنوبيّاً للإقليمين الخصيبين، وتطرّفاً باتجاه التصحر والقحولة الشاملة، بما في ذلك القحولة الحضارية، والقحولة السياسية التي عجزت عن بناء دول وكيانات وازنة في المكان القاحل، باستثناء ما ذكره الإخباريون العرب بشأن عاد وثمود اللذين نسب إليهما الإخباريون وجوداً ممتزجاً بالأسطورة؛ بشأن اندثارهما، إضافة إلى استثناء ما كان مزدهراً في إقليم اليمن.
والعرب الذين أطلقوا تسمية الجزيرة على موطن وجودهم الطبيعي فوق سطح الأرض، كانوا على معرفة دقيقة بالحدود المائية التي تجعل أرضهم جزيرة تعزلها البحار عن بقية العالم، من جهاتها الغربية والجنوبية والشرقية، وجعلوا نهر الفرات (تخماً) مائيّاً شمالياً يستكمل جعلها جزيرة، بوصف المتبقّي بين أقصى غرب الفرات والبحر المتوسط حيّزاً برّياً ضيقاً، لا يُعتدّ به مقابل كل تلك الحدود المائية الطويلة جداً.
تعرّضت تلك الآلاف من السنين إلى تعتيم شامل بالمعنى الدقيق للتعتيم، وهو تعتيم ذو شطرين، الأول: موضوعيّ سببه استمرارُ المناخ المتطرّف آلاف السنين الكفيلة بمحو ما لا يحصى من الرسوم والآثار التي خلّفها البشر في المنطقة، بعضها درسته الرياح المتفاوتة بين حراراته المتدنية جداً والحرارة العالية جداً، وبعضها شققته ثم طحنته الشمس اللاهبة المتسلّطة بأقصى قسوتها على المكان، وتولّت الكثبان الرملية المتحركة دفن ما دفنته، كما تولّى الرعاة البداة، والغزاة تدمير البقية، بدوافع عديدة يتصدّرها بحثُهم عن الكنوز والذهب، حتى ضمن الكتل الحجرية المشمولة بالنقوش؛ إذ كان يقرّ في أذهان أولئك وأولئك أن النقش دليل على وجود شيء ثمين في الباطن الذي لا يمكن بلوغه إلا عبر تحطيم الكتلة التي تغلّفه، والتحطيم لم يكن يسفر إلا عن الخيبة والمزيد من الخيبة، أما الشطر الثاني فهو تعتيم متعمّد سلك قنوات ثقافية صنعها البشر على مدار القرون، كسيطرة الأقوام غير العربية على تاريخنا، والتعصّب الذي سوّد صفحة العرب إضافة إلى الأنشطة الاستعمارية الغربية الرامية إلى تدنية الشعوب المستعمرَة وجعل السيطرة عليها فعلاً مسوّغاً، وضروريّاً من الناحيتين السياسية والأخلاقية.