تلازمني “عادة” لم أحاول التخلص منها يوماً، فمنادمة الرصيف، وتأمل وجوه المارة، وزبائن المتجر الصغير الذي يمنحني مالكه كرسياً متواضعاً، وفنجان قهوة، أو كأساً من المتة، هي ليست صدفة عابرة أمارسها كلّ مساء، وإنما هي جزء من متعة تقدم إلي بالمجان في عصر الفواتير الثقيلة والمطالبين بدفعها السابق لأي ابتسامة ننتظر منها ترياقاً لما سوف يأتينا من مصائر موحشة في الغد، كذلك هي رافد اجتماعي، يمنحني الكثير من العلاقات الحميمية في زمن الصفاقة والمصالح الآنية، فالأصدقاء الطيبون الذين لا يجمعني معهم سوى أننا أبناء حي واحد، وزبائن مدانين بمبالغ مادية يحدد خاناتها التاريخ اليومي للشهر الذي نتقاسم وإياه الهواء مع المضيف المتقاعد الذي يماثلنا أيضاً برصيده المادي، وهمومه، وقلقه، وطموحاته بالاستمرار فوق هذه الأرض بأقل الخسائر الممكنة إلى أن يحين الأجل المجهول، فالحياة نكتة غير مكتملة نتداول تفاصيلها في كل مساء لنضيف إلى الضحك معاني جديدة، معاني تبدأ من حيث انتهى الماضي لتكون كما تلك “العادة” نبعاً ثقافياً استمدّ أسراره من الأفكار غير المدجنة، وغير الواردة ضمن سطور المنظرين، وأصحاب الرأي المكتوب، فمن تلك الجلسات التي لا تخضع لمواعيد محددة بدقائق الساعات الرقمية، نستطيع ترجمة ما نقرأه، واكتشاف مدى صلاحيته على الأرض، فالنظريات الفلسفية، الأدبية الاجتماعية، الاقتصادية، والسياسية، تأتي من خلف نظارات سميكة يجالس أصحابها خلف طاولات أنيقة بعضاً من أزهار تصارع الموت، تماماً كما الأكف التي زرعتها عندما كانت بذورها تبحث عن الماء.
– مقايضة الدفء، في كل الفصول، بمزيد من النكات، والمعلومات البريئة المسروقة من أمام المتاجر الصغيرة، وأبواب البيوت الشعبية، لن تخصني وحدي، وإنما هي طقس واسع الانتشار بين سكان الأحياء المهمشة في المدن السورية، فهي البديل الموضعي للمقاهي التي باتت فواتيرها في السنوات الأخيرة تشكل عبئاً لن يستطع معظم ذوي الدخل المحدود سداده، أما بالنسبة لسكان القرى بالعالم فهي جزء من رفاه متعب، تماماً كما “العتابا، والميجنا” والأخاديد التي رسمها الزمن على ثقوب “نايهم” العجوز، هي رفاه لا غنى عنه تقدمه سماء صافية بقمرها الذي يكاد يلامس بشغفه جباه الذكريات الجميلة التي عجزت سنوات الحرب، وأيام الفاقة اللاحقة عن محوها من بين شفاه المتسامرين.
– هل يسأل “المتبصرون” عن مصدر الدمع الذي حدد عطر تلك الأزهار التي تزين ردهاتهم، وأغلفة كتبهم الأنيقة، هل يسأل هؤلاء عن اللحن الذي ما زلوا يتبادلونه مع ذاك القروي البعيد عن مصدر إلهامهم، وقراراتهم المريبة؟ جواب هذا السؤال تحدده تلك الجلسات الشعبية التي تجمع كافة المتناقضات في كفة ميزان واحدة، لكنها بذات الوقت قادرة على تحديد مدى صلاحية تلك النظرية أو غيرها، مثلما هي قادرة على تحديد الإحداثيات الصادقة عند الإعلان عن أي هزيمة أو نصر بثت تفاصيله أجهزة الإعلام الحديثة.