النثر في بهاء القصيدة
يكادُ اليوم يمر ما يُقارب القرن من السنين على شيوع (قصيدة النثر)، ومع ذلك ثمة من يجد الحنين للعودة لزمن “العنتريات” بين (شرعية) هذا الشكل الشعري من عدمه، أو هو كائنٌ مشكوكٌ بأصالته، وكأن الأصالة الشعرية وجدت فقط لتحمي الشعر الموزون المُقفى والمغربل.. ذلك الشعر الذي نُحت يوماً في الجزيرة العربية على حداء البعير ورجز الناقة، وغيرها مما “بحرّه” الفراهيدي ذات حينٍ من بطر الإيقاع والوزن.. وقد وصل ذلك الشكل الشعري إلى خواتيمه في بداية القرن العشرين مع شعراء (الكلاسيكية الجديدة) من جماعة بدوي الجبل، نديم محمد، حامد حسن، عمر أبو ريشة، وآخرون.. تلك الكلاسيكية التي كانت أشبه بدائرة مُغلقة لم تستطع – إلا قليلاً – النفخ في قربة الجماليات القديمة للشعر الموزون التي تبيّن فيما بعد أنها قربة مثقوبة، بعد أن وصلت ذروتها مع القول الشعري للمتنبي وأبي تمام، وأبي النواس، والبحتري وغيرهم..
بمعنى من غير الجدوى اليوم البحث عن جماليات شعرية جديدة في الشعر الموزون، فيكادُ الأمر أن يكون قد نفدت كلها مع جماعة الكلاسيكية الجديدة التي ذكرناها أعلاه.. كما أنه من العبث اليوم الحديث عن “شرعية” قصيدة النثر اليوم، والحديث عن أصالتها، وفيما يخص الإشكالية الأخيرة، فإنّ عودة بسيطة إلى سورية العتيقة، وتحديداً في عصرها الهلنستي، ذلك الزمان الذي تلاقت فيه على الأرض السورية الثقافتين الفينيقية والإغريقية، والتي جلعت من سورية حينها منارة العالم الثقافية، سيجد المُتابعُ والباحث عشرات النصوص الشعرية التي تُضاهي اليوم النصوص الحديثة والمُعاصرة لنصوص قصيدة النثر، ولكم في الشاعر السوري العتيق (مليّا غروس) شاهداً شعرياً بهيّاً على أصالة قصيدة النثر في الأرض السورية، ومليّا غروس ليس الشاهد الوحيد، فقد قدّم الباحث إحسان الهندي كتاباً مُهماً في هذا المجال صدر منذ مدة بعيدة عن وزارة الثقافة السورية.
مُناسبة حديث هذه الزاوية؛ هو الملتقى الذي أقامته مديرية الثقافة في دمشق مؤخراً في المركز الثقافي في (أبو رمانة)، بعنوان (النثر في بهاء القصيدة) بإشراف الشاعرة غادة فطوم، والمداخلات النقدية التي قُيلت فيه، وحكاية (البطر) في التصنيفات، ومحاولة التمييز بين قصيدة النثر، وبين أشكال شعرية أخرى كالومضة، والهايكو، والتوقيعة، والقصة القصيرة جداً.. ذلك إنّ كل ما تقدم من أشكالٍ شعرية، ربما باستثناء القصة القصيرة جداً؛ هي جميعها أشكال شعرية في قصيدة النثر، بمعنى هي ليست أنواعاً شعرية مستقلة ومكتفية بنفسها، وإنما هي أشكال في النوع الواحد ليس إلا.. حتى الهايكو ذي المنشأ الياباني؛ تمّ تعريبه وتبنيه ليُناسب جماليات اللغة العربية، ومن ثمّ لم يبقَ من “يابانيته” سوى (المُقاربة) فقط.. وحتى القصة القصيرة جداً، هي بقراءة ما، إحدى أشكال قصيدة النثر، كما هي إحدى أشكال القصة، وذلك بالمخاتلة الجمالية التي بُنيت عليها، باستعارتها جماليات الحكاية من القصة، وجماليات الشعرية من القصيدة، فكانت (الأقصودة) كما أطلقت عليها في زمن مُبكر خلال عقد التسعينيات.