نيرون نصير الفقراء
لا تزال نسبة جيدة من الكتّاب توجّه تهمة الطغيان إلى الحاكم الروماني “نيرون” رغم براءته منها، وذلك كلّما جاء ذكر الشرّ وخلود رموزه، وهم في ظل ذلك يستنكرون عدم حضور رموز الخير، وبالأحرى خلودها !
لكنني أزعم أن الناقد الأدبي “حنا عبود” انفرد في العالم العربي بتبرئة نيرون من تهمة الطغيان، وكذلك الجنون. وكان عبود قد اعتمد في تبرئته ضمن كتابه “من حديث الفاجعة” الصادر عن اتحاد الكتّاب العرب في دمشق عام 2000، الذي هدف فيه إلى الكشف عن الدور التخريبي لمحدثي النعمة، كظاهرة اجتماعية عبر التاريخ، اعتمد على أن محدثي النعمة هم الذين نسجوا هذه الشائعة على أنوال مصالحهم، وكان الفصل الذي خصصه الناقد عبود لتلك التبرئة قد أضاء خلفيات التهمة.
ولكي أستوضح منه أكثر كنت قد سألته ذات حوار نشر قبل سنوات الحرب، على ماذا اعتمد في تلك التبرئة فأجاب: المراجع تقدم لك الوقائع من أمثال “قصة الحضارة” لويل ديورانت، و”تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي” لميشيل فوكو. وتقدم لك كتب التاريخ المناخ العام. ومن الوقائع والمناخ العام يمكن للباحث أن يقدم استنتاجات منطقية. فنيرون كان في اليونان يشترك بالألعاب الأولمبية يوم أُحرقت روما. وعندما عاد وتحرى الأمر عرف أن الطبقة التجارية من محدثي النعمة أرادوا أن يوسّعوا أسواق روما لبضائعهم فأقدموا على إحراق الأحياء الفقيرة، فما كان منه إلا أن أحرق أحياءهم، انتقاماً لحرقهم الأحياء الفقيرة. وهذا ما يفسر لنا تعلق الطبقات والفئات المضطهدة بنيرون وبخاصة من اليونان، حيث كانت الألوف، إن لم نقل الملايين، تحج إلى ضريحه، يحمل كل واحد وردة يضعها بعد أن يصلي لروح هذا الذي كان نصير الفقراء. وقد استمرت تلك العادة حتى زمن متأخر في الإمبراطورية الرومانية، ولم تختفِ إلا بعد أن انتشرت المسيحية واعتبرت هذه العادة “كفراً”. أمّا لماذا لا يزال اسم نيرون يستخدم رمزاً للطغيان؟ فيقول عبود: السبب بسيط. فإن الناس قد أصبحوا تحت سلطة الأدب الذي ظهر بعد نيرون، حيث ساهم المسيحيون في روما كثيراً في ذلك وخاصة بعد أن سمعوا أن نيرون جريح ويريد الانتقام منهم. وبذلك تحول نيرون إلى رمز، لم يعد له أي صلة بالواقع، تماماً مثل الأفعى التي نخافها ونذمها ونهرب منها، مع أنها رمز للصحة والعافية والعلاج. وهذا ما يفسر سلطة الأدب الكبيرة.