شعراء الشواطئ
هل جربت أن تقرأ البحر على أجساد زائريه، هل عرفت امتداده ولا انتهاءه، هل شهدت نرجسيته وغيرته، هل عرفته سلساً، مرناً، جموحاً، معطاء، قادراً، مُنتقماً ؟؟! إذاً عليك أن تقرأ كتاب البحر كاملاً، لتقول: البحر، تشكيلٌ عن شاعرٍ مجنون.
لم يكفّ البحرُ عن تسجيل حضوره في الأدب، وجاء ذلك بوضعياتٍ مختلفة بين السلبي والإيجابي، كما استخدم كرمز وكمعنى، البحر كائنٌ كوني مُثقل بمزاجية، مُترفٌ بتمرده، فريدٌ بما يحمله من تناقضات، انظر إليه تراه سمحاً شفافاً، وفي أقل من خفقة يطغى ويثور، تأمله تلقاه ضاحكاً بغبطته، وبمثل الخطف ينقل إليك شجنه، راقب البحر عاشقاً، مجّد قامته مراوداً طرطوس عن سكينتها، ابحث عن سرِّ قدرته على منح الفيض، فتش عن كبريائه، وهو يسحب الشمس إلى أقصى إقامته، وفتش عن تواضعه، وهو يفتح مراياه للقمر.
ورغم أن الشعر ما قبل الإسلام في العربية؛ قاس أوزانه على ستة عشر من (البحور)، غير إنّ مفردة البحر بقيت بعيدة عن شواطئ بحور الخليلي مع كل جوازاتها، وهنا قد نتفهّم غياب المدى البحري في مدى بيئيٍّ صحراوي لا بحر فيه إلا من بعيد بعيد لا يعني ابن الصحارى بشيء.
لكن هذا المدى الأزرق، يبدو – وإلى حدّ كبير – قد غاب عن مفردات القصيدة المُعاصرة، وأقصد بذلك قصيدة النثر تحديداً، حتى عند الشعراء الذين يُجارون البحر، ولهم مع موجه حكاية عند كل صُبحٍ ومساء.! لاسيما شعراء طرطوس وجبلة واللاذقية، وحتى لواء اسكندرون، وهذا ما تنبهت له – إلى حدٍّ ما – الرواية، عندما كرّس أديب كحنا مينة على سبيل المثال جلّ ما كتبه في الرواية عن البحر، بل إن أكثر ما عُرف به مينة، كان برواياته البحرية، وتحديداً ثلاثيته “ثلاثية بحّار” أي الأجزاء: “حكاية بحّار، الدقل، والمرفأ البعيد” مع أنّ مينة، لم يكتفِ بهذه الثلاثية البحرية، بل كتب كذلك: الياطر، نهاية رجل شجاع، الشراع والعاصفة، البحر والسفينة، وهو الأمر الذي لم نجده لدى الشعراء، وإن كُنّا وجدنا معادلاً للسرد الروائي البحري لدى مينة، عند أكثر من فنان تشكيلي، حيث كان إغواء هذا الأزرق مع بياض اللوحة لدى الكثير من الفنانين التشكيليين: نزار صابور، بولس سركو، سموقان، و.. غيرهم.
أزرق هذا المدى البحري، بقي إلى حدّ كبير لم يؤثر في القول الشعري لشعراء الشواطئ, إذ بقي جلهم أشبه بالجبال التي انتموا إليها، أي بمعنى آخر احتووا بعض صلابة الهضاب والسهوب، ومن ثمّ أبقوا ذلك التشكيل الخارجي للبحر جانباً، وحتى لا نظلم نقول: “إلا قليلاً”، نذكر هنا: مثالاً: سوسن الحجة في مجموعتها (عُشبة للأزرق)، وصبا قاسم في مجموعتها (أبجدية الأزرق).. حيث لم يستطع البحر أن يشدّ الشعراء إلا في بعض قصائد اللهجة المحكية، أو الموزونة، كما شدتهم طبيعة القرية، التي كانت الحافز الأول على كتابة الشعر وتوزعت مفرداتها على طول مجموعاتهم الشعرية.