باتت مفردة “أزمة” بترجماتها الرمزية والمباشرة، من أكثر الاشارات التي يتم تداولها في القاموس العالمي للقرن الواحد والعشرين، لدرجة أن تلك المفردة الصماء استطاعت بالتقادم الإلكتروني السريع الانفتاح على جميع مناحي الحياة، بدءاً من الأحاديث العامة بين الأفراد، مروراً بمحافل القرار المحلي، الإقليمي، والعالمي، ولن يكون نهاية طوافها مع أجهزة الإعلام، بل قد يكون الإعلام هو من جعل منها كرات انشطارية بذبذبات باردة بين الأفراد والجماعات، لكنها في الوقت ذاته قادرة على أن تتجه بسكانها نحو حمم الثقب الانساني الأسود.. وتبقى الأسئلة الحدباء ملاصقة للإجابة التي تمليها علينا تلك المفردة وهي تبحث عن ذاتها ضمن دائرة الغاية القصوى من استلهام معانيها للوصول إلى مبررات جمعية تعزز بالنهاية من قيمة الحماقات التي ترتكب بحق الإنسان
ليس من قبيل الاعتداء على التراث اللغوي للمفردة عند محاولتنا الزج بها في قفص الاتهام، لا بل هي محاولة أخيرة لإنقاذ حاضرها من عمل السخرة المفروض عليها من قبل المعجم المفتوح للتفكير الحديث، فالجوع والقهر والحرب وانعكاساتها النفسية والمادية على البشر باتت تتحكم جوهرياً في حياتنا اليومية لتفصلنا بالكامل عن “النهج الديكارتي” الداعي إلى الارتقاء بالوجود الإنساني من خلال قدرة الانسان على التفكير، بينما الرأسمال بالمفهوم الحديث يعزز قيمته على حساب التفكير للارتقاء بوجوده من داخل هيمنته المطلقة على خط سير الأزمات.. قد تبدو المفارقة هنا فلسفية بامتياز، لكن الواقع المعيش، وما يتم تناوله في أروقة الفكر المعاصر بثيابه المزورة حول ضرورة تعميم الأزمات ومحاسنها الاستراتيجية على بنية المجتمعات الحديثة واستقرارها، سوف يدرك بأن الحرب الباردة بين مفردة أزمة المحدثة والرؤية “الديكارتية” للكائن الإنساني، باتت قائمة على مدار الساعة بأشكال مختلفة في الغواية، لكنها تمنع الطرفين من ممارسة السيادة، كما تقوم على منعهما من الجلوس حول مائدة الحوار لاستمرار الحروب التي تتيح للرأسمال تعميم فكر جمعي بين بني البشر يقيه من شر المثول أمام محكمة العقل
لا نريد تبرير القوة المهيمنة على مفردة “أزمة”، التي جعلت منها سلطة مطلقة تمارسه عبوديتها على المجتمعات لكننا نطالب أنفسنا نحن معشر بني الإنسان بالانتصار لديكارت، هذا المطلب، وانتصار رؤيته، سوف يسير بنا نحو الإقرار بأن الأزمات المعاصرة نابعة بالدرجة الأولى من أزمة فكرية باتت تجتاح كلّ المجتمعات بأسماء مختلفة وروافد شتى، ليس أهمها الرأسمال الريعي، لكنه وحده المسؤول عن الارتقاء بالأزمات العامة لإيصال الجميع إلى حالة من اليأس، هي بعيدة أيضاً عن إرثها المعجمي.