لغة المسلسل.. لغتنا
تقول مديرة إحدى نوادي السينما للأطفال في بريطانيا، في تصريح لصحيفة ” الغارديان”: “لدينا أطفال ليس لديهم كتب في المنزل ولكنهم على الفور يثقون في التحدث عن الفيلم لأنه شيء قد انخرطوا فيه بالفعل”.. ذلك الأمر اختبرته بنفسي، فقد فوجئت بابنتي الصغيرة “نايا” ذات السنوات الثلاث تتكلم مفردات من اللغة الروسية إثر مشاهدتها برامج أطفال روسية على اليوتيوب، فقمت بتوجيه اهتمامها بالصوت والصورة إلى برنامج “افتح يا سمسم” في جزئه الثالث، لاكتشف كيف بدأت تتسلل إلى لسانها مفردات باللغة العربية الفصحى، ولاسيما ما يتعلق بالأعداد والألوان، لكن “نايا” ما كانت تتفاعل مع كل فقرات البرنامج الموجه للأطفال، ووجدتها تتفاعل مع مسلسل تلفزيوني على نحو أكبر، وهو الأمر الذي أمكنني رده إلى أن تفاعلها مع المادة التلفزيونية وتعلمها منها يزداد كلما كان المحتوى مشوقاً أكثر.
بمعنى أن قوة الفيلم أو المسلسل كأداة تعليم وترفيه، تكمن في قدرته على تكوين علاقة عاطفية مع المشاهد، وهذا يمكن فهمه على سبيل المثال، من تفاعل الناس لغوياً مع مسلسل “الجوارح” الذي قدمت حكايته باللغة العربية الفصحى، في قالب درامي مشوق جعل الناس ينجذبون إليه ويقلدون أبطاله بما فيه اللغة، وفي وقت لاحق قدمت الدراما السورية دراما تاريخية عن الأندلس، كتبها الفلسطيني وليد سيف، مثل ” صقر قريش” و”ربيع قرطبة” و”ملوك الطوائف”، وقد استولت بلغتها الفصحى على اهتمام الناس وجذبتهم للشحنة العاطفية التي انطوت عليها اللغة و قدرتها على ملامسة قلوبهم قبل عقولهم. وما نجح فيه السوريون في الدراما التاريخية، كانوا أخفقوا به في ثمانينات القرن الفائت وقبلها حين حاولوا تقديم دراما اجتماعية بلغة عربية فصحى، ونقطة الإخفاق كانت في المضامين التي حملت اللغة العربية، إذ لم تستطع أن تقيم تلك العلاقة العاطفية مع الناس.
وباستثناء ما قدمه المصريون في فترة من الفترات، كان المسلسل التاريخي والمسلسل الديني هو عامل لنشر اللغة العربية عبر الدراما وتداولها بدلا من اللهجات المحلية في المجتمعات العربية ، ورغم تفاوت نجاحها الفني، إلا أن ذائقة المشاهد ظلت مرتبطة بهذه النوعية من الدراما بوصفها وثيقة لغوية يتفاعل معها، وكلنا نعرف أن كثيراً من الجمل العربية الفصحى التي يتداولها الناس في حياتهم العادية، ووسط لغتهم المحلية، مصدرها مسلسلات تاريخية أو أخرى حاولت محاكاتها، ولو على سبيل الكوميديا…وذلك الأمر الذي يملي بضرورة التدقيق اللغوي للنصوص الدرامية التاريخية.
و إلى جانب الدراما التاريخية، تبرز مسلسلات الرسوم المتحركة العربية أو المدبلجة إلى العربية، ولعلنا لا نجد اثنين يختلفان على أن أول مدرسة لتعليم اللغة العربية في حياتنا جميعاً كانت مسلسلات وأفلام الرسوم المتحركة. وحقيقة أن الرسوم المتحركة واحدة من أفضل وسائل تمكين اللغة العربية عند الأطفال لابد من تعزيزها، ولاسيما أن التجربة أكدت أن الأطفال يرتبطون بالأفلام والبرامج الموجهة إليهم بغض النظر عن حالة الأهل التعليمية، وهو الأمر الذي يستدعي اليوم إيقاف حالة التدهور الذي بدأ ينال الدور التعليمي للغة العربية في هذه المنصات الترفيهية بظهور رسوم متحركة تتكلم باللهجات المحلية، والتدقيق في المحتوى.