في عوالم المتاهة!!
الحرية:
ربما من نافل التذكير؛ القول إن الأديب الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس (1899-1986)، يعتبر من أبرز كتّاب القرن العشرين. وهو بالإضافة إلى الكتابة، فقد كان شاعراً وناقداً، وله عدّة رسائل.. وربما أيضاً من نافل التذكير أيضاً، القول إنّ أعماله تُرجمت إلى عشرات اللغات منها: الإنجليزية والسويدية والعربية والإيطالية والألمانية والفرنسية والدنماركية والبرتغالية.
وفي هذا الحيز؛ ليست الغاية اليوم الحديث عن إبداع بورخيس الواسع، بقدر الإشارة إلى إحدى قصصه التي يروي فيها؛ أنّ أميراً أوروبيّاً دعا أميراً عربياً إلى بلاده، وأراد الأوروبي إدهاش ضيفه وإشعاره بأنّه أقلّ شأناً، فاقتاده إلى متاهةٍ مبنيةٍ بالحجر والملاط، وتركه داخلها، مؤمّلاً أن يعجز العربي عن تلمّس طريق الخروج، لكن العربي, بعد استعانته بالتجريب، والاهتداء بالنجوم، استطاع الخروج والنجاة.
وعندما حان وقت ردّ الزيارة دعا الأمير العربي ضيفه الأوروبيّ إلى داخل الصحراء، وتركه فيها قائلاً له: هي ذي متاهتنا، فهل تستطيع الخروج؟ لا يرمي الاختصار الآنف لقصة بورخيس إلى التنويه بالموقف الإنساني النبيل للكاتب، واحترامه العميق للإرث العربي في سياقه العريض، بل القصد ماثل في أن الصحراء هي المتاهة الأدهى التي طرحت تحدّياتها على البشر، قبل أن يطرح البحر، بوصفه متاهة، تحدّياته الخاصّة بالمبحرين القاصدين اكتشاف المجاهيل المائية، بعد أزمنةٍ طويلة من التعاطي البشري مع الصحراء، والبوادي، وأشباه الصحارى، ومشتقاتها وامتداداتها المكانية المتنوّعة.
وهنا نُذكّر أيضاً بعددٍ من الرويات ليس هيناً، تلك التي تناولت متاهات الصحاري، وقدمت نتاجاً إبداعيّاً جمّاً.. وربما هنا تحضر وبشدة رائعة الروائي التي تأتي واسطة العقد في الرويات التي تناولت متاهات الصحاري، وهي جزآن: (الطوارق وعيون الطوارق) للروائي الإسباني “البرتو باثكث – فيكروا”، وبترجمة مدهشة للأديب السوري عبده زغبور، وهي رواية غرائبية يمتزج فيها السحر واللامعقول مع حرارة الواقع.
ما أريد أن اختمَ به؛ إنه وفي عوالم المتاهة المرعبة التي نعيشها ويعيشها العالم والربع الأول من القرن الحادي والعشرين يحسمُ أيامه الأخيرة، ربما لن تنفع العربي اليوم استعانته بالاهتداء بالنجوم، ليستطيع الخروج والنجاة من المتاهة كما فعل سلفه عندما كان ثمة شيءٌ من الندّية بين الأميرين السابقين في الزمن القديم!!
أذكر الربع الأول من القرن؛ لأنه من قراءة بعض متاهات التاريخ، كثيراً ما تكون الأرباع الأولى من القرون متاهة لا يخرج من ضياعها إلا القلة الناجية!!