على هامش ملتقى الأمن السيبراني.. معركة الكرامة آتت أُكلها
تشرين- ادريس هاني:
فكرة واعدة ومحترمة، أن يصبح اللقاء حول الأمن السيبراني ليس حكراً على المؤسسة الأمنية في بنغازي، التي تلخّص مستقبل ليبيا ومشروعيتها الجيو- تاريخية، حيث منها يُعاد بناء الدولة، كما كانت دائماً هي المبتدأ في كل حدث تاريخي في ليبيا منذ قيام البطل الكبير الشهيد عمر المختار، وذلك لأنّ الضامن اليوم هو إعادة بناء وتأهيل القوات المسلحة العربية الليبية.
بات اللقاء حول مكافحة الإرهاب السيبراني مفتوحاً على الكوادر المدنية وآراء المثقفين، اذ يُحسب للقيادة العامة وقيادة الأكاديمية العسكرية تكريس هذا التقليد لنهج سياسة الانفتاح، وإدراك الدور التاريخي للمثقف، الشيء الذي قلَّما نجده في تجارب الإقصاء والاستهتار بهذا الدور.
انعقد اللقاء بدعوى كريمة من الأكاديمية العسكرية للعلوم الأمنية والاستراتيجية، وبإشراف القيادة العامة للقوات المسلحة العربية الليبية، ووسط احتفاء نادر يعزز الثقة والاطمئنان، بالعاصمة التي انطلقت منها معركة الكرامة، من أرض الشهداء، بكرم ووفاء، كان الإحساس دافقاً بأنّ ليبيا التي واجهت موجة الإرهاب، وعانت من لعبة الأمم، تحاول بثقة في أبنائها وسواعد الجيش الذي حاولوا كما فعلوا طيلة العشرية الأخيرة أن يطيحوا به ليستطيعوا تنفيذ مخطط التقسيم وتكريس حالة الهشاشة الدائمة.
لمست حجم الخراب الكبير، وهو أيضاً يعكس حجم التضحيات، لمست أيضاً أنّ كوادر الجيش على قدر كبير من الإيمان بقضيتهم، كما هم على عقيدة وطنية صحيحة، كما يتمتعون بخبرات عالية وثقافة متينة، وذلك من خلال ما قدموه من آراء وما تجاذبناه من حديث مع بعضهم، وقد كان هذا مصدر اطمئنان وإيمان بأنّ ليبيا هي اليوم في أيد أمينة، وبأنّ سؤال الدولة والسيادة والاستقلال حاضر بقوة.
حاربت بنغازي وقادت عملية الكرامة، نيابة عن الإقليم وعن العالم، فالحرب على الإرهاب، هي ليست ولن تكون محلية، كل انتصار على الإرهاب هو انتصار للسلم العالمي، وكل خراب هو خراب للناس جميعاً، وقد كنا وما زلنا بلا مواربة، ضدّ استباحة الوطن العربي، وأقطاره، برسم لعبة الأمم، الإرهاب الذي سبق وفتك بسورية والعراق وتهدد مصر وتونس والجزائر والمغرب، وبلاد أخرى، واليوم يتمدد وينشط في مناطق عدة، ويستهدف الكيانات الوطنية والنسيج الاجتماعي، وهو اليوم يتحرك على طريق الأطماع الكبرى التي أسهمت بتمكين الإرهاب عموماً والإرهاب السيبراني خصوصاً، ليتهم تركوا ليبيا تحلّ مشكلتها ويكتفون بالتضامن والمساعدة.
لقد قُدّر لي أن أجلس مع الكثير من الفاعلين هنا وهناك، وأنصت لهم غاية الإنصات، ثم ضربت بعض هذا الرأي بذاك الرأي، فخرجت بانطباع، أنّ لا مناص أن ميلاد ليبيا الجديدة، سيكون من هنا، من بنغازي، فمن أراد النجاة، فليلتحق بالسفينة.
تمكنت القوى الوطنية والقبائل الغيورة أن تستنقذ ليبيا من تحت الرماد، وأمّا قادة هذه المعركة فقد آمنوا بأنّه لا غنى عن وجود دولة، وقبل الدولة لا غنى عن وجود جيش يحمي الكيان، ما طمأنني أنّ الشعب والجيش ما زال يحنّ إلى أمّته وعروبته وثقافته، ما زالت قيم النخوة والشهامة تمنحه الدّافعية لمزيد من المبادرات والتضحيات، كما أنّ النسيج الاجتماعي الليبي يلتئم وهو على قدر من الصلابة والوفاء.
هذه القراءة حين توضع في سياق ما تشهده المنطقة خلال السنوات الأخيرة، ندرك أنّ الأبوية هي الرحم الذي ستولد منه الدولة نفسها، فالغزاة استعملوا وسائل تخريب الأواصر والنسيج الاجتماعي والثقافة المحلية، لأنهم أرادوا إدخال المنطقة في ليل من الحروب الأهلية وعزلها، وفي زيارة مقر الأكاديمية العسكرية، سنكتشف أنّها قاعدة تحتضن مستقبل الدولة الليبية القادمة، مقر بناه الليبيون وغطى نفقة بنائه الشعب وطلائع عملية الكرامة، وهي أكاديمية تُخرِّج أفواجاً من الضباط والكوادر العسكرية وتحتضن تكوينات عالية الجودة.
لا يوجد في بنغازي أي مظهر من مظاهر التسلح، مع أن القيادة العامة للقوات المسلحة تقوم مقام الدولة وتحرص على تنفيذ مشاريع مدنية، بناء جسور ضخمة، مرافق جديدة، العناية بالبنية التحتية باتت أولوية في السياسة العمومية للقيادة العامة.
مؤشر الاستقرار واضح، ليل بنغازي يضجّ بأهله، الكورنيش ممتلئ بالمارة، المول، المحلات التجارية، في انتظار تقدم الحوار وبلوغ برّ الأمان، ها هي عاصمة معركة الكرامة تقدم النموذج الحيّ، لا استقرار من دون دولة، لا دولة من دون قوات مسلحة، لا مستقبل من دون توافق على المؤسسات والسيادة.
بنغازي التي تحتضن لقاء الأمن السيبراني، هي نفسها تحتضن احتفاء ثقافياً وفنّياً بالمسرح، فالمثقف الليبي ما زال متفائلاً، لقد احتوت بنغازي على مثقفي ليبيا، وساهمت في التئام النخبة، والمستقبل يعد بالمزيد.
الخراب الذي مازال ماثلاً في بعض الأماكن هو شاهد على عشرية الدّم، مثل السوق الكبير، ومرافق كثيرة، كفندق ريجنسي البهي الذي لم ينجُ من القصف والتخريب، الذي يلخّص ملحمة الهمجية.
أيّام قضيناها في فندق تيبستي المطل على بحيرة بنغازي وشارع جمال عبد الناصر، تبادلنا فيها آراء والتقينا رفاقاً لم نرَهم منذ زمن، الأمل، والابتسامة، وعودة الحياة هو عنوان بنغازي المحروسة اليوم، هنا، لم يعد هناك مكان لـ«هلاوس» برنار هنري ليفي، ولا لمن فكّر وخطط لأن تكون ليبيا بؤرة للإرهاب الدّائم، لقد تفككت هنا كلّ تلك التنظيمات التي فتكت بالآمنين وخربت الممتلكات العامة للشعب، تفكك معها الوهم بابتلاع أرض، شهدت معارك ضد الغزاة الفاشيست، انتهى أمراء الدّم وتبخر حلم ليفي وسيلفياته الممسرحة.
كاتب من المغرب