أزمة القمح العالمية والقطبة المخفية والنموذج الاقتصادي السوري المناسب

تتداخل الأزمات الاقتصادية وتتشابك مع بعضها البعض حتى أصبح من الصعوبة تحديد السبب والنتيجة أو العلة والمعلول، وتتعدد التحليلات الاقتصادية الدولية لكن يسيطر عليها الموقف السياسي ويتم تقاذف التهم وبالتالي الابتعاد عن تحديد جوهر المشكلة، والآن يستخدم القمح (السلعة النبيلة) في الصراع الدولي، وسينعكس هذا مباشرة وبشكل سلبي على فقراء العالم وسيزيد من عدد الجياع، فهل عودة روسيا إلى اتفاق تصدير القمح سيحلّ مشكلة الغذاء العالمي؟ أي هل هذه الأزمة حديثة بعد الحرب ( الروسية- الناتوية الأوكرانية)؟ وأنا هنا لا أقلل من دورها، بل أقصد أن المشكلة العالمية لا تكمن هنا، بل وراءها أسباب اقتصادية ربحية وقناعتي أنه مهما دورنا الزوايا فإن الاقتصاد هو المركز في تفسير أسباب هذه الأزمات بتنوعها وتعددها، ومشكلة القمح الحالية تكرار لمثيلاتها مشكلة الطاقة وقبلها كورونا وقبلها أزمة المناخ والأزمة الاقتصادية العالمية..إلخ، فأين تكمن الأسباب الحقيقية؟
ولكن للقمح خصوصية وكما قال الرئيس الفرنسي الأسبق (شارل ديغول 1890-1970): «لا تبحثوا عن أسباب الحرب في براميل البارود بل في إهراءات القمح»، أي في (صوامع الحبوب)، وهنا نسأل بل نتساءل هل عودة روسيا إلى الاتفاق سيحل الأزمة مع تعهد رئيسها بتقديم مئات آلاف الأطنان مجاناً إلى الدول الأشد فقراً في إفريقيا ومنها السودان وجيبوتي والصومال وغيرها، ولكن من جهة أخرى يوجد من يريد استغلال القمح لمآربه الشخصية وحتى لو وصل الأمر إلى ربطه بالدولار (قمح دولار) كما استخدم في سبعينيات القرن الماضي بعد الأزمة النفطية العالمية وباقتراح من ثعلب السياسة الأمريكية (هنري كيسنجر) مصطلح (بترو دولار)، لكن العالم يتغير وتتغير معه النماذج الاقتصادية، وكما قال الاقتصادي الأمريكي (سامو يلسون) الحائز جائزة (نوبل) سنة /1970/ في كتابه (علم الاقتصاد) حرفياً: «الآن هو الوقت الذي يحدد فيه علماء الاقتصاد إمعان التفكير بشأن نظريات جديدة حول الآلية التي توجه الاقتصاد في مسعاهم للتوصل إلى نموذج جديد يحتذى به، ولما كان تعدد الآراء وتنوع مدارس الفكر لا يفسد للعلم قضية فلا مفر من قبول التعددية وما ينبلج عنها من إرهاصات متواترة»، وأكد أيضاً الخبير الاقتصادي الأمريكي السيد (إدموند فيلبس) الحائز جائزة (نوبل) للاقتصاد سنة /2006/ على دراسته حول (تحديد أفضل السياسات الاقتصادية على المديين القصير والطويل) والتي كان لها تأثير كبير على راسمي السياسة الخارجية الأمريكية وقال: «الادخار وتشكيل رأس المال إضافة إلى التوازن بين التضخم والبطالة هي عوامل رئيسية في تحقيق وتوزيع الرفاه الاجتماعي على المدى الطويل»، ولم تعد مراكز القوى الاقتصادية والعسكرية الحالية كما كانت في القرن الماضي، ولم تعد أوروبا حلم الجميع، بل تضحي بمصالح شعوبها أمام استمرار تبعيتها لأمريكا، وتبين هذا في أزمة الطاقة والآن في القمح، والدليل هو أن /8/ دول وهي (الهند والصين وروسيا والولايات المتحدة وكندا وأستراليا وأوكرانيا وتركيا) مع الاتحاد الأوروبي تنتج بحدود /85%/ من القمح العالمي، ومع هذا تتوسع دائرة الجوع ولكن وحسب تقرير الأمن الغذائي الصادر عن الأمم المتحدة للأغذية والزراعة (الفاو) سنة /2020/ أي قبل الحرب ولا سيما في (آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية والبحر الكاريبي)، كما أكدت الأمم المتحدة بأن /1.3/ مليار شخص في العالم من أصل /8/ مليارات أي حوالي /17%/ يعانون من فقر (متعدد الأبعاد)، وهذا يتناقض مع تصريح مديرة صندوق النقد الدولي السيدة (كري ستالينا غور غيفا) بأن (الحرب في أوكرانيا تعني الجوع في إفريقيا)!، وقال الأمين العام للأمم المتحدة السيد أنطونيو غوتيريش: (إعصار من المجاعات) ربما يضرب البلدان الضعيفة التي لا تملك غذاءها وتعتمد على الاستيراد ..إلخ.

ولكن جياع العالم لن ينسوا كيف قامت أمريكا سنة /2018/ بإلقاء مئات آلاف الأطنان من القمح في المحيط الأطلسي بهدف تقليل المعروض العالمي منه وأدى هذا إلى ارتفاع الأسعار، وقامت أستراليا أيضاً بقتل عشرات الآلاف من الجمال والسبب هو معادلة اقتصادية (زيادة الطلب عن العرض يؤدي حتماً لزيادة الأسعار)، وكان بالإمكان تصدير القمح والجمال إلى الدول الفقيرة ليس مجاناً كما فعلت روسيا بل على الأقل بأسعار مقبولة !، ومعروف أن أمريكا هي أكبر دولة مصدرة للغذاء و ثالث دولة منتجة للقمح بعد الصين والهند وتنتج بحدود /49%/ من الذرة و/25%/ من الأرز في العالم، وقدمت دعماً لمزارعيها بحدود /16/ مليار دولار متجاهلة ميثاق منظمة التجارة العالمية WT0 وهذا أضر بشكل كبير بمزارعي الدول الفقيرة وخاصة في منطقة شمال إفريقيا والشرق الأوسط الذين يستوردون أكثر من /35%/ من مشتريات القمح العالمية، فهل أصبح القمح وسيلة للقهر وهو في صلب نزاع في الأسواق العالمية؟، وقناعتنا أن هذه الأزمة التي أتت بعد أزمات معروفة ستولد مقدمات لأزمات لاحقة (ذرة وزيوت وأدوية) وغيرها لأن كل أزمة تولد مقدمات لأزمات أخرى بهدف زيادة الربح وهنا تكمن (القطبة الأساسية المخفية) وهي أن أي علاقة اقتصادية تؤول في مآلها الأخير إلى (العلاقة النقدية) أي رابح وخاسر، وهذا يتطلب منا في سورية أن نبحث عن نموذج اقتصادي يناسبنا وإلى قراءة اقتصادية جديدة تختلف عن ما تعلمناه ونعلمه لطلابنا من المدارس الماركسية والليبرالية (آدم سميث ودافيد ريكاردو )، وبحيث يضمن هذا النموذج لنا كيفية الاستعداد لمواجهة الأزمات القادمة، ومرتكزات هذا النموذج برأيي هي ( ترسيخ ثقافة الإنتاج والاهتمام بالموارد وخاصة البشرية والتعامل الاقتصادي العقلاني مع والدي الثروة وأقصد الأرض والعمل، ولاسيما أن العالم سيواجه أزمات أقسى وأكبر قريباً، وأرجو أن أكون مخطئاً.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار