حسام الدين بريمو.. أمير الغناء الجماعي الذي اختار الظل حتى النهاية

سامر الشغري:

ليس أصعب على المبدع من حياة الظل والعيش في الكواليس بعيداً عن الأضواء، ولطالما اشتكى مبدع من أن الصحافة لا تهتم به كما يجب، ولا تعير الانتباه المطلوب لنتاجاته وكل تفاصيل حياته، ولكن المايسترو الراحل حسام الدين بريمو اختار وعن سابق إصرار البقاء بعيداً عن النجومية وعن كل ما يجعله مشهوراً، رغم أنه يمتلك المقومات التي تجعله يستحق ذلك وبجدارة.. زهد حسام بريمو لمسته شخصياً عندما كنت مدعواً لحضور الندوة التكريمية التي أقيمت للاحتفاء بسيرته الفنية في المركز الثقافي العربي في أبو رمانة، بآخر يوم من سنة 2018، حيث رأيته كيف منعته حساسيته المفرطة واعتداده بنفسه من إجراء حوار مع محطة تلفزيونية لأن المذيعة سألته عن اسمه، فأجابها باستغراب “ما دمت لا تعرفين اسمي فلماذا تجرين معي حواراً أصلاً، أنا لست بحاجة لحوارك هذا” ثم اعتذر منها وانصرف.

رغم أن حسام كان يعرف أن هذا السؤال روتيني وضروري لعامل المونتير أثناء عمليات مونتاج التقرير، ولكنه كان غير شغوف بالأضواء ويعمل بصمت قدوته في ذلك أستاذه صلحي الوادي معلم كل الموسيقيين الأكاديميين في سورية، الذي علّم تلامذته أن يكونوا شعلة تنير للآخرين وتذوي بصمت، وأن يطلقوا مشاريع يكونون هم عرابيها وصانعي نجومها.

بدا تعلق الراحل الذي ولد في مدينة دمشق سنة 1962 لأسرة تعود أصولها إلى مدينة صيدنايا بالموسيقا بسن مبكرة جداً، لقد شغف الطفل حسام بالآلات النفخية عكس أغلب الصغار الذين يختارون البيانو أو الكمان، وظل لعقدين يتعلم العزف على آلات الفلوت والترومبيت والكلارينيت، وكان هذا مفيداً جداً على صعيد الغناء، ويذكرنا إلى حدٍّ بعيد بالعندليب عبد الحليم حافظ الذي درس العزف على آلة الأوبوا ليقوي حباله الصوتية.

الدور البالغ الذي لعبه في حياته الموسيقار الراحل صلحي الوادي بدأ مع انتسابه للمعهد العالي للموسيقا فور افتتاحه، فحسام كان قد تخرج في المعهد المتوسط الهندسي وأنجز خدمة العلم وعمل في المسرح الجامعي وفي نهاية العشرينيات من عمره، عندما تقدم إلى فحص القبول في هذا المعهد المفتتح حديثاً، فقد اختبره الوادي بنفسه وتجاوز عن شرط العمر لأنه وجد حسام موهوباً جداً ويتقن العزف ببراعة على معظم الآلات النفخية، ليصبح حسام ضمن عداد الدفعة الأولى للكونسيرفتوار السوري.

في المعهد درس حسام على يد ثلاثة أساتذة من خريجي المدرسة الروسية هم الأذربيجاني فاغيف باباييف الذي درّسه العزف على آلة الأوبوا الصعبة، والروسية غالينا خالدييفا في اختصاص الغناء الكلاسيكي، ومارس الغناء مع جوقة المعهد العالي بإشراف الروسي فيكتور بابينكو مغنياً منفرداً لامتلاكه، كما يؤكد الباحث الراحل صميم الشريف طبقة الصادح /تينور/ الصوتية حتى صار واحداً من المغنين المعتمدين في حفلات الفرقة الوطنية السيمفونية، واعتمده الوادي لقدراته الفائقة ليؤدي دور البحار الأول في أوبرا دايدو وإينياس أول عمل أوبرالي يؤدي السيمفوني السوري.. ولكن حسام شب عن الطوق وحاد عن الطريق الذي رسمه له أساتذته، ولم يعر التركيز الكبير للغناء الأوبرالي، واندفع نحو الموسيقا العربية والغناء فيها وأحيا في سبيل ذاك عدة حفلات في القاهرة وبيروت مع الفرقة الوطنية للموسيقا العربية التابعة للمعهد بقيادة العراقي حميد البصري.

تنقل حسام بين عدة مناصب من قيادة وتدريب فرقة المعهد العربي للموسيقا /صلحي الوادي حالياً/ وقيادة جوقة الإنشاد السرياني في كلية مار أفرام بمعرة صيدنايا ومادة التربية الموسيقية في كلية التربية بجامعة دمشق، فضلاً عن ترؤسه لقسمي الغناء الكلاسيكي والعزف الجماعي في المعهد العالي، ولكن كل ذلك لم يكن ليلامس حلمه المتمثل في تأسيس جوقة غنائية.. وضربت سنة 1999 موعداً مع المايسترو الراحل لتحقيق حلمه، عندما أسس أول فرقة من سلسلة جوقات (لونا للغناء الجماعي) باسم جوقة قوس قزح، والتي قدمت الغناء الكلاسيكي والشعبي والحديث بأكثر من عشرين لغة.

وفي عام 2003 أسس حسام ثاني جوقات لونا للغناء الجماعي بعنوان جوقة ألوان، التي ضمت نحو 100 طفل وطفلة وقدمت ألواناً من الغناء بلغات متعددة.

بعد ذلك بعام أسس الراحل ثالث جوقات لونا وحملت اسم ورد وضمت 40 فتى وفتاة، وقدم عبرها بثلاثة أصوات أعمالاً متنوعة المواضيع إضافة لأعمال تراثية.

وفي عام 2006 أسس وقاد فرقة شام رابع جوقات لونا، التي اهتم من خلالها بتقديم التراث الغنائي العربي بأسلوب تقليدي، وأعقب تأسيس هذه الفرقة بعام تأسيس جوقة سنا وهي خامس جوقات لونا للغناء الجماعي وتأتي أهميتها من أعضائها الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 3 و6 سنوات. ‏أما آخر فرقة من جوقات لونا فتأسست عام 2008 وتضم عازفين على مختلف الآلات الموسيقية الغربية والشرقية لمرافقة الجوقات الخمس في الحفلات التي تقيمها. لقد قاد حسام جوقات لونا عبر كل حفلاتها الخاصة أو المناسبات الكثيرة التي أحيتها داخل وخارج سورية، وهو لم يقم بذلك اعتباطاً بل درس قيادة الأوركسترا في دورات تدريبية عديدة، حتى قادته قدماه إلى القاهرة حيث تدرب بإشراف قائد فرقتها السيمفونية الدكتور أحمد الصعيدي.

لقد صنع حسام مع جوقاته الخمس فجراً جديداً للغناء الجماعي في سورية، وأخذه إلى مكانة لم يعرفها في الحراك الفني المعاصر، إذ لم تعد حفلاته مقتصرة على تقديم الترانيم وإحياء المناسبات الدينية، بل خرج إلى رحاب أوسع فقدم التراث السوري والعربي والعالمي وبلغاته الحية، وغنى للسماء وللوطن للطفولة وللحب للسلام والعدل، ولكن إنجازه الأكبر في إطلاق ملتقى جوقات سورية الذي استمر لعامه الرابع واحتضن فرقاً للغناء الجماعي من مختلف الجغرافيا السورية.

كل ذلك صنعه حسام من دون أن يقدم نفسه بصفة القائد أو المدير، بل اعتبره دائماً مشروعاً جمعياً مكتفياً بالنجاحات التي تحققها جوقات لونا وبعدد أعضائها الضخم المتزايد سنوياً، ولكن ما كان يؤرقه قلة الدعم المقدم حيث تعمل الجوقات والفرقة الموسيقية بصورة شبه تطوعية، وعدم رضاه عن مواكبة الإعلام الحفلات والأمسيات التي تقيمها، من دون أن يصرّح بذلك ولكن كان يبوح بها لخواصه..

في إبداعات راحلنا حسام جانب مهم ولكنه أقل شهرة وهو التأليف الموسيقي، إذ يكاد يكون المؤلف السوري الوحيد الذي وضع مقطوعات خاصة لآلات النفخ الغربية، وله أيضاً أعمال في الموسيقا التصويرية ولعل أشهرها مسلسل (حكايا عربية) وفيه نلمس أيضاً تأثره بتخصصه الأول واعتماده على النفخيات. ومن المؤكد أن التاريخ الذي أنصف الوادي بعد رحيله وردّ عنه الهجمات والانتقادات التي طالته من خلال جيش من التلاميذ الذين أصبحوا موسيقيين كباراً، سوف ينصف حسام الدين بريمو مع أعضاء جوقاته الخمس الذين سينشدون لنا ولغيرنا حكاية هذا الموسيقي السوري الكبير.‏

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار