مضامين الليبرالية الحديثة في السياق الفلسطيني
تشرين- لمى بدران:
قد لا يعلم كثيرون عن مصطلح «الليبرالية الجديدة» أو «النيوليبرالية» على الرغم من أنه نظام اقتصادي يحكم العالم منذ أكثر من 35 عاماً، وعاد بالضرر على ملايين الناس في العالم، حيث ظهر للمرة الأولى في باريس سنة 1938، ويرى الكاتب البريطاني «مون بيت» أن عدم معرفة الناس باسمه وحقيقته هو أحد أسباب قوته، وكان له كنظام دور رئيسي في مجموعة من الأزمات والحروب أيضاً ومنها بكل تأكيد الحرب العاتية القاسية على فلسطين المحتلة.
ومع تسارع العولمة وخلال العقدين الأخيرين هناك أياد سوداء تعمل على ضرب أسس العدالة الاجتماعية، ولا تريد للحرب في فلسطين أن تنتهي، فالدماء المسفوكة هناك وأبشع أشكال الجرائم بحق الفلسطينيين لا تعنيهم أبداً، وبات من الواضح أن هناك مزجاً بين العولمة والفكر الليبرالي الجديد لتحقيق مطامع اقتصادية واجتماعية وتاريخية أيضاً، لأن حزمة السياسات التي يفترض أن تمنع الصراعات، وهيمنة السوق الواحد، وتقليص الإنفاق على الخدمات الاجتماعية، والتحرير الذي يخفض التدخل الحكومي في الدول، والخصخصة، والقضاء على مفهوم الصالح العام تُبيح كل هذه التجاوزات عندما يصل الأمر إلى فلسطين! فأين هي كل تلك السياسات أمام ما تعيشه هذه الأرض المغتصبة؟
لا شك بأن الحراك الطلابي في الجامعات الأوروبية والأميركية، الذي شهده العالم تضامناً مع فلسطين كظاهرة تشبه الطوفان الطلابي، هو سابقة أرعبت صنّاع القرار في أوروبا وأميركا وبني صهيون، لأنه وصل إلى جامعات وبأعداد لم يسبق لها مثيل، حيث إن «طوفان الأقصى» في 7 تشرين الأول العام الماضي هزّ الخطط السياسية للأنظمة الاستعمارية وغيّر مجرى التاريخ، لكن بكل أسف المعاناة الكبيرة مستمرة وما زال أهلنا في فلسطين يفتقرون إلى أدنى مقومات العيش، والشهداء يرتقون يومياً من دون رحمة أو ضمير حي من قوات العدو الإسرائيلي.
وتنبثق اليوم ضرورة عظمى لإعادة النظر في الواقعية السياسية التي تمس الحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني، والتي بات من الواضح أنها مقترنة بالصهيونية الليبرالية اليهودية كركيزة للمشروع الاستعماري الاستيطاني الإسرائيلي المُنطلق من الذراع الاشتراكية اليسارية، فتلك الصهيونية الليبرالية لها منذ عقود معتقدات محورية ثابتة في السياق الفلسطيني، أولها أن إقامة «دولة إسرائيل» هي السبيل الوحيد لتأمين سلامة اليهود وحلّ مشكلة نفيهم، ولليهود حقوق سيادية وتوراتية متأصلة في أرض فلسطين، والمشروع الصهيوني هو مسعى «بطولي ومُعجِز» يحمل شعلة التحديث والحضارة إلى ما يسمى «أرض إسرائيل»، وأيضاً أن حرب الاستقلال سنة 1948 كانت ضرورية ونتائجها المتمثلة في طرد ما يزيد على 750 ألف فلسطيني من أراضيهم وديارهم وتدمير فلسطين، هي نتائج طبيعية ولا بد من تقبلها.
ولو اتجهنا إلى الجانب التعليمي لرأينا أن هناك بعض الدراسات الصادرة عن مركز الوحدة العربية تؤكّد أنه بات من الضروري التوجّه لبناء نظام تعليمي عام مجاني يقوم على أسس تقدّمية وتنموية وتحررية وتمكينية للنساء في فلسطين، وذلك في إطار بيئة مقاومة لوجود الاستعمار الإسرائيلي، ونظام سياسي هادف لتحقيق العدالة الاجتماعية لكل مواطنيه باعتبارها ضرورة اجتماعية، ونقيضة للسياسات الليبرالية الجديدة التي تقوم على حرية السوق وعلى الاتجار بالتعليم وتسليعه، ليصبح التعليم بحد ذاته محوراً أساسياً لتشكيل الهوية الوطنية والتنموية، ولتمكين الفلسطينيين من مواجهة الهيمنة الاستعمارية وما خلقته من تشوّه في البنية الاقتصادية والاجتماعية الفلسطينية، كذلك لمعالجة الآثار الاجتماعية السلبية للسياسات الليبرالية الجديدة، حيث لن يتأتى هذا كله إلا في إطار حاضنة عربية ودولية تقوم على الأسس التنموية التقدمية ذاتها.
في الواقع الفلسطيني هناك عوائق كثيرة ماثلة أمام بناء نظام اقتصادي جديد، حيث لا يوجد فضاء سياسي عند السلطة الفلسطينية لاختيار برنامج اقتصادي من دون التأثير الخارجي المقيد بالاحتلال الإسرائيلي والسياسة الأميركية الداعمة له، عدا أنه لا توجد لدى السلطة ممتلكات عامة يمكن نقلها للقطاع الخاص، وشروط الاستثمار من الملكية الثابتة، وإمكانية الدفاع عنها وتأمينها غير موجودة بتاتاً، بسبب استمرار الاحتلال والاستيلاء على الأراضي التي تنعدم عليها السيادة الفلسطينية.