«ملف تشرين».. منظومة وقاية تدرأ متوالية خسائر قاهرة…خبير بيئي يدفع برؤية إنقاذية لثروة ثمينة تلتهمها النيران على الملأ

تشرين- رفاه نيوف:
مساحات شاسعة من غاباتنا وأراضينا الزراعية حُرقت، ما أحدث خللاً بيئياً وإنتاجياً، وللأسف ما زالت الحرائق مستمرة في قضم مساحات جديدة، رغم الإجراءات والتحضيرات التي تتخذها مديريات الزراعة كل عام قبل بدء موسم الحرائق. والسؤال: هل هذه الإجراءات قاصرة؟، وأين أصبنا وأين أخطأنا، وما هي السبل الصحيحة للحدّ من الحرائق؟.
للإجابة عن هذه التساؤلات “تشرين” التقت أستاذ البيئة وحماية الغابات – قسم الحراج والبيئة في جامعة تشرين الدكتور محمود علي، الذي تحدث بكل شفافية.

الوقاية قبل العلاج
إذ يؤكد د. علي أن الحرائق تحصل في كل أنحاء العالم، لكن يمكن بكل تأكيد الحد من أعدادها، والأهم من ذلك تقليص المساحة المحروقة في كل حريق إذا ما تم تنفيذ جملة من الإجراءات الوقائية.

إزالة الوقود الطبيعي (جميع المواد النباتية ميتة أو حية) من أماكن الخطورة العالية كجوانب الطرقات المارة بالمناطق الحراجية والزراعية

المثل يقول درهم وقاية خير من قنطار علاج، وهذا المثل ينطبق على الحرائق في كل دول العالم، وتمتلك الوقاية أهمية أكبر بالنسبة لسورية، لأن إمكانيات السيطرة على النيران بعد اندلاعها متواضعة بسبب نقص المعدات اللازمة للإخماد، ولاسيما عربات الإطفاء وقدمها وصعوبة تأمين القطع اللازمة للإصلاح والصيانة لأسباب عديدة، يأتي في مقدمتها الحصار وشح الوقود والخطط الشهرية المتواضعة لهذه الآليات، إذاً باختصار علينا تفعيل الإجراءات الوقائية من الحرائق إلى الحد الأقصى.

أين التقصير؟
واستعرض د. علي أهم الإجراءات الوقائية الواجب اتخاذها، وأهمها إزالة الوقود الطبيعي (جميع المواد النباتية ميتة أو حية) من أماكن الخطورة العالية كجوانب الطرقات المارة بالمناطق الحراجية والزراعية “نسبة كبيرة من الحرائق تحصل في الأراضي الزراعية، وقد تمتد إلى الغابات المجاورة”، تنظيف حرم شبكات الكهرباء وإزالة الأغصان المتشابكة مع أسلاك الكهرباء، تنظيف حرم محطات تحويل الكهرباء، تنظيف حرم خطوط جر المياه ومحطات الضخ، تنظيم حرم السكك الحديدية، تنظيف حرام المعامل والمصانع وجميع المنشآت المتواجدة بالقرب من الغابات.

تواضع الخطط المقررة
ويرى د. علي أن ما تم القيام به في هذا المجال متواضع جداً، ويعود ذلك إلى ضعف الإمكانات وتواضع الخطط المقررة في دمشق أولاً. والقيام بهذه الأعمال لا يقع فقط على عاتق كوادر الحراج والزراعة عموماً، بل على عاتق جهات متعددة، فتنظيف حرم خطوط نقل الكهرباء وخزانات الكهرباء يقع على عاتق وزارة الكهرباء، وتنظيف حرم سكك الحديد يقع على عاتق أصحاب الولاية على السكك الحديدية، وتنظيف جوانب الطرق العامة يقطع على عاتق وزارة النقل، ويجب متابعة تنفيذ هذه الأعمال من قبل الجهات الوصائية مع وزارة الزراعة.

أين الطرق الحراجية وخطوط النار؟
وأضاف د. علي: من الضروري شق ما يكفي من الطرق الحراجية ومصداّت الحرائق (خطوط النار) لتسهيل وصول فرق وآليات الإطفاء بالسرعة الكلية للمواقع المحروقة، كما أنه من شأن الطرق وخطوط النار الحدّ من تقدم النيران منخفضة الشدة، إذ كثيراً ما نسمع من المعنيين بإدارة الحرائق أن عمليات الإخماد معقدة وصعبة بسبب عدم إمكانية الوصول إلى المواقع المحروقة نظراً لتعقيد و صعوبة تضاريس الموقع وإلى ما هنالك من معوقات، لذلك وباختصار لم نقم بشق ما يكفي من طرق وخطوط نار، و لو فعلنا ذلك بالشكل الكافي والصحيح لأزلنا هذه الحجة.

شق ما يكفي من الطرق الحراجية ومصداّت الحرائق (خطوط النار) لتسهيل وصول فرق وآليات الإطفاء بالسرعة الكلية للمواقع المحروقة

وتابع: في هذا السياق، أذكر أن مجلس الوزراء وجّه بعد حريق مشقيتا المدمر عام 2023 بفترة وجيزة بشق طرق وخطوط نار في الغابات السورية بما يضمن تسهيل وصول (و عمل) فرق الإطفاء في المستقبل إلى بؤر الحرائق، ولكن هل تم تنفيذ توجيهات مجلس الوزراء التي مضى عليها قرابة العام حتى الآن؟ الجواب ببساطة لا..!.
وحول سؤالنا عن ترميم وتنظيف الطرق الحراجية وخطوط النار بشكل دوري للإبقاء على جاهزيتها لحين الحاجة، وهل يتم ذلك على الوجه الأكمل؟ أجاب بالنفي، وضرب مثالاً في محافظة اللاذقية، المعقل الأهم للغابات السورية، فالخطة السنوية لترميم وتنظيف الطرق الحراجية وخطوط النار هي بحدود ألفي كيلو متر، نفذ منها هذا العام حسب معلوماته نحو 25% فقط بسبب عدم توفر الإمكانيات..! ولاسيما المحروقات، والوضع مشابه في بقية المحافظات، وهنا لا نلقي اللوم على دوائر الحراج التي تقوم بما عليها بل على شح المحروقات وتواضع الخطط الموضوعة.

تقليم وتفريد الغابات
ومن الإجراءات التي تحمي غاباتنا-حسب د. علي- تقليم وتفريد للغابات الكثيقة (أعمال تربية و تنمية) وخاصة تلك الحساسة للحرائق (المخروطيات) وتنظيف أرض الغابة لمسافة معينة من الطرق العامة، لأن أغلبية الحرائق تبدأ سطحية ثم تتحول إلى تاجية. مؤكداً أن هذه الأعمال تتم بشكل متواضع، و أعطى مثالاً محافظة اللاذقية، خطتها السنوية لأعمال التربية والتنمية هي ألف هكتار، ومساحة الغابات فيها أكثر من 60 ألف هكتار، وبالتالي حسب الخطط الحالية، إذا تمت أعمال التربية والتنمية لموقع معين في عام 2024، فإن دور هذا الموقع القادم سيكون في العام 2084، فهل هذا منطقي؟ والسبب دوماً هو ضعف الإمكانات وتواضع خطط أعمال التربية والتنمية، وهذا ينسحب على كافة المحافظات.
يضاف إلى ما سبق ضرورة إزالة مخلفات الحرائق السابقة لما لها من آثار سلبية، ولاسيما تعقيد عمليات الإخماد في حال حدوث حريق، كون النيران قد تشتعل ضمن الجذوع الميتة لأيام وليالي، كما أنها قد تتسبب بحرائق جديدة في مواقع بعيدة عنها نتيجة تشظي هذه الجذوع وانتقال قطع مشتعلة مع الرياح في حال وجودها. ولم يتم ذلك في أغلب المواقع.

دور غائب للوحدات الإدارية

وركز د. علي في سياق الحديث عن الإجراءات الوقائية، على نقطة هامة جداً وهي الحرائق الزراعية ودور وحدات الإدارة المحلية في هذا المجال، إذ ذكر أنه تجول مؤخراً في مواقع متعددة في ريف محافظة اللاذقية وما لفت نظره هو كميات الحشائش والأعشاب المتواجدة على جوانب الطرقات وفي حقول الزيتون المتواجدة في هذه المناطق. مناظر مخيفة وسبق وحذر من عواقب ذلك أكثر من مرة مؤخراً (و في السنوات السابقة) وضرورة إلزام وحدات الإدارة المحلية وتمكينها (تأمين المعدات والمحروقات الكافية) لإزالة كل ما هو قابل للاشتعال على جوانب الطرقات المارة بين الأراضي الزراعية كون هذه الأماكن تعتبر مواقع خطورة عالية جداً بعد جفاف هذه النباتات (وقد جفت)، إذاً من الممكن أن تشتعل من أي مسبب، بما في ذلك عوادم بعض الآليات، وأضاف: طالبنا كثيراً خلال اجتماعات ومقترحات مقدمة للوزارة (خطة مكافحة الحرائق للعام 2020) بضرورة مراقبة وضبط عمليات التحريق الزراعي من قبل وحدات الإدارة المحلية المتواجدة في كل قرية، وشكلت لجان بهذا الخصوص، لجان رئيسة على مستوى المحافظات وأخرى فرعية على مستوى المناطق وتحت فرعية على مستوى النواحي، لكن ماذا كانت النتيجة؟ متواضعة جداً، والدليل على ذلك التهام النيران هذا الموسم مئات الهكتارات من حقول الزيتون في أرياف اللاذقية، طرطوس وحماة حتى الآن، وهذا مؤشر على قصور الإجراءات المتخذة وعدم فعاليتها بالشكل المرجو.

تقليم وتفريد للغابات الكثيقة (أعمال تربية و تنمية) وخاصة تلك الحساسة للحرائق (المخروطيات) وتنظيف أرض الغابة لمسافة معينة من الطرق العامة

ونوّه بملاحظته مؤخراً قيام بعض وحدات الإدارة المحلية بقص النباتات حول بعض الطرق بعمق يتراوح بين نصف متر و المتر وترك المخلفات بالأرض، والمطلوب قص و ترحيل كل ما هو قابل للاشتعال.

الحرائق الزراعية بازدياد
وأكد د. علي أن الحرائق الحراجية حتى الآن قليلة نسبياً هذا العام، أما الزراعية فهي عديدة وكبيرة وآخذة في التصاعد بعد أن جفت الأعشاب المتواجدة على جوانب الطرقات وفي حقول الزيتون، وأن عدداً من الحرائق الزراعية بمساحة 40 إلى 50 دونم زيتون حصلت مؤخراً، متوقعاً المزيد بسبب هجرة الأراضي الزراعية التي تئن تحت حمولات غير مسبوقة (بسبب الهطولات الربيعية العالية) من الحشائش والأعشاب اليابسة والمهيأة للاشتعال من أي شرارة، وما يزيد الطين بله، عدم وجود طرق لإيصال عربات الإطفاء حال حدوث المحظور. وستمتد النيران على مساحات مئات الهكتارات لو اندلعت (والاحتمال كبير جداً) بسبب تضاريس بعض المناطق وعدم إمكانية إيصال معدات وفرق الإخماد إليها. فالطرق وخطوط النار يجب أن تنشأ في الأراضي الزراعية كما الحراجية، وبالنهاية بعض الحرائق الزراعية تنتقل إلى الحراج والعكس صحيح وفي كلتا الحالتين الكل متضرر.

لو خصصت الموارد التي استخدمت لمكافحة الحرائق لتنفيذ الإجراءات الوقائية المناسبة وإجراءات المراقبة لكانت جعلت من هذه الغابات “جناناً حصينة”

استنزاف كبير للموارد

وأشار إلى نقطة مهمة تبيّن حجم الإمكانات الكبيرة للموارد البشرية والمادية التي وُضعت العام الماضي للسيطرة على حريق مشقيتا والجهود المضنية التي بذلت من قبل جميع المعنيين، ولم يقف شح المحروقات أو خطط المسافات للآليات عائقاً حينها، بينما شح نفس هذه الموارد يشكل عائقاً أمام تنفيذ الإجراءات الوقائية بالشكل الأمثل..!!! ولو خصصت الموارد التي استخدمت لمكافحة هذا الحريق لتنفيذ الإجراءات الوقائية المناسبة وإجراءات المراقبة، لكانت جعلت من هذه الغابات “جناناً حصينة” إلى حد كبير ضد النيران والاعتداءات المختلفة.

 

أقرأ أيضاً:

«ملف تشرين».. مراقبون تحت الطلب وكوادر”لا كالكوادر”…المجتمع الأهلي حرّاس أمناء وتشاركية بالمصلحة في الوقاية من الحرائق..

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار
بحث سبل تعزيز التعاون بين وزارة الصحة والتحالف العالمي للقاحات بنسبة 5%.. تخفيض أسعار الغزول القطنية للمرة الثانية هذا العام الطيران المروحي يشارك في إخماد حريق بين الحصن والحواش بريف حمص الغربي مصادر خاصة: اللقاء بين الرئيسين الأسد وبوتين حمل توافقاً تاماً حيال توصيف المخاطر والتوقعات والاحتمالات المقبلة وزارة الثقافة تمنح جائزة الدولة التقديرية لعام 2024 لكل من الأديبة كوليت خوري والفنان أسعد فضة والكاتب عطية مسوح الإبداع البشري ليس له حدود.. دراسة تكشف أن الإبداع يبدأ في المهد تضافر جهود الوحدات الشرطية في محافظة حماة يسهم في تأمين وسائط النقل للطلاب وإيصالهم إلى مراكز امتحاناتهم الرئيس الأسد يجري زيارة عمل إلى روسيا ويلتقي الرئيس بوتين بايدن - هاريس - ترامب على صف انتخابي واحد دعماً للكيان الإسرائيلي.. نتنياهو «يُعاين» وضعه أميركياً.. الحرب على غزة مستمرة و«عودة الرهائن» مازالت ضمن الوقت المستقطع «أصوات ملونة» انطلاقة جديدة لأحلام كبيرة.. طلاب يقدمون الغناء الأوبرالي من مختلف الثقافات