بلينكن.. وما لا تقوله أميركا

في سيل الأخبار المتناقضة التي تتدفق منذ أيام حول مفاوضات القاهرة، وما يمكن أن تنتهي إليه، فشلاً أو نجاحاً، في الوصول إلى اتفاق هدنة في غزة وتبادل محتجزين وأسرى.. خرج علينا وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن بتصريحات هي فعلياً التعبير الأدق عن الموقف الأميركي الحقيقي تجاه متزعم حكومة الكيان الإسرائيلي بنيامين نتنياهو من جهة، وتجاه العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة والذي يكاد يختتم شهراً ثامناً بحصيلة ضحايا مفتوحة.
بلينكن اعتبر أنه لا بد من الاعتراف «ومن أن نفهم» أن سياسات نتنياهو هي «انعكاس لموقف الغالبية العظمى من الإسرائيليين في هذه اللحظة» وذلك في كلمة له أمس السبت في منتدى «سيدونا» الذي ينظمه معهد ماكين في ولاية أريزونا.
وزاد بلينكن: «إسرائيل» باتت غير مهتمة باتفاق «سلام» بعد سنوات من الرفض العربي للصفقات التي تم طرحها على الطاولة منذ «كامب ديفيد» والتي كانت ستمنح الفلسطينين ما نسبته 95 في المئة مما يريدونه ويسعون إليه.. لكنهم خسروا الفرصة.
طبعاً كانت هناك تصريحات أخرى لبلينكن تضمنت سرداً تاريخياً بهذا الخصوص، ولا نعتقد أننا بحاجة لعرضها أو لعرض ما تضمنته من تضليل ومغالطات، لذلك اخترنا منها فقط ما يخص الوضع الحالي، أي جبهة غزة، ومفاوضات القاهرة.
في الشق الأول، يريد بلينكن إظهار نتنياهو بموضع من يحظى بتأييد «شعبي»، ولن نناقش في هذه المسألة فهي ليست هدف بلينكن، بل الهدف هو القول بأن أميركا لا تستطيع إلا أن تؤيد نتنياهو وتدعمه مادام هو يحظى بتأييد هذه الغالبية العظمى، بصرف النظر عن رفضها «المزعوم» للعدوان، ومخاوفها الإنسانية المزيفة تجاه الفلسطينيين.. هذا عدا عن مواجهة المتظاهرين الذين يسيطرون على المشهد الأميركي دعماً لفلسطين وأهلها، ومطالبة لإدارة بايدن بممارسة دورها ونفوذها لإجبار الكيان الإسرائيلي على وقف عدوانه، بلينكن أراد تبرئة بلاده والقول للمتظاهرين وللرأي العام العالمي «وللمحكمة الجنائية الدولية» إن الكيان بمتزعميه ومستوطنيه على رأي واحد، وإن واشنطن لا تستطيع ممارسة نفوذ وضغوط على الكيان الموحد خلف العدوان على قطاع غزة، وأن كل ما يشهده الكيان من مظاهرات للمستوطنين هي ليست ضد العدوان، بل هي فقط للضغط في سبيل تسريع استعادة المحتجزين، ولا يهم أن يستمر العدوان بعدها، أو أن يتم إبادة جميع الغزيين، قصفاً أو جوعاً، لا يهم.
وعملياً موقف «الغلبية العظمى» التي تحدث عنها بلينكن هي في حقيقتها تعبير عن الموقف الأميركي الذي لا يريد أن يتم حسم جبهة غزة إلا وفق خريطة فلسطينية/ إقليمية تصب كلياً في مصلحة أميركا وكيانها.
في الشق الثاني، حول أن «الكيان لم يعد مهتماً باتفاق بعد سنوات من الرفض العربي للصفقات التي تطرح على الطاولة منذ كامب ديفيد» فهذا أيضاً يصب في التوجه ذاته، أي تحميل الجانب الفلسطيني والعربي كامل المسؤولية عن فشل التوصل إلى تسوية للقضية الفلسطينية «وحل الدولتين» وصولاً إلى الحرب العدوانية الشاملة التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني اليوم، ليس في قطاع غزة، بل وفي الضفة الغربية أيضاً، وضمنها محاولات الكيان في هذه المرحلة، واستغلالاً للعدوان على غزة، إلى فرض حل الدولتين وفق ما يريده، أي دولة فلسطينية خارج فلسطين التاريخية، فإذا كان العرب يريدون دولة فلسطينية (واستقراراً في المنطقة) فليدعموا هذه الدولة على أراضيهم.
بلينكن يريد أن يقول بالحرف، هذا هو الوضع وهذه هي الطريقة لحسم جبهة غزة وإنهاء مأساة الشعب الفلسطيني، وإلا فإن العدوان مستمر، والمنطقة لن تعرف استقراراً، وجبهة غزة ستمتد إقليمياً لسنوات طويلة «وتالياً لا تقدم ولا تنمية ولا عمار ولا ازدهار» ولن ينفعها حلفاء إقليميون ولا شرقيون.
وغني عن القول إن تصريحات بلينكن هي تعبير عن الموقف الأساسي للولايات المتحدة، وهي رسائل تهديد إلى المنطقة، وتأكيد بأن الولايات المتحدة ستستغل كل فرصة وحتى اللحظة الأخيرة لفرض ما تريده، ولتستمر الحرب سنوات طويلة، أميركا فعلياً تبني قوتها وديمومة زعامتها على قاعدة الحروب والاضطرابات، وليس من الصحيح كلياً أن جبهة غزة أضرت بمصالحها، وإن كانت كذلك فهي لن تتراجع أمام واقع الحال، وستعمل على دارة دفة غزة والمنطقة لمصلحتها، وترى أن لديها أوراقاً كافية لذلك، فهي ما زالت صاحبة التواجد والنفوذ الأكبر في المنطقة مقارنة بغيرها من القوى الدولية.
بالعموم، يُقال إننا أمام أسبوع حاسم فيما يخص جبهة غزة، وإن علينا التركيز على مفاوضات القاهرة الحالية باعتبارها منعطفاً أو مفترق طرق.. وبعد هذا الأسبوع قد يكون هناك حديث آخر.. فلننتظر ونرَ.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار