أخطر من النزاع في الشرق الأوسط.. التحليل الكيدي والبهلواني

تشرين- ادريس هاني:

لم يكتفِ ألستر كروك المسؤول السابق في جهاز الاستخبارات البريطانية، ومستشار رئيس حلف شمال الأطلسي خافيير سولانا، بما يكتفي به عادة المحلل العربي الوظيفي الذي هو جزء من معادلة الصراع، باعتماد تكرار العناوين المضللِة للصحافة الصفراء، ولكنه رغم مسؤولياته الكبرى، زجّ بنفسه في المعضلة الشرقية ودخلها من الباب الواسع، فأدرك التفاصيل التي فيها يسكن شيطان المغالطة، لم يكن فقط قارئاً عابراً للمشهد، بل جزء من حلّ النزاع، لأنه أشرف على سلسلة من الحوارات بين الطرفين لم يتحقق لها النجاح..

اليوم يقرأ ألستر كروك المشهد عشية ما وُصف بـ«العدوان الإيراني» على الاحتلال ليلة 14 نيسان الجاري، وهو يعتبره رسالة تحذير، أجل، يقرأ المشهد بنظرة نستطيع أن نعتبرها وفيّة للواقع الموضوعي، وهذا ما أؤكد عليه مراراً، بأنّ المحلل الوظيفي أو المرتزق أو الغبي أو الحاقد، لا يفعل أكثر من التشويش على الحقيقة والواقع، فضلاً عن الاستخفاف بالمتلقّي، حالة كاريكاتيرية، لخبراء مزيفين، يعتبرون الوثيقة هي ما يتطاير من أخبار صنيعة كابينيت الحرب منذ سنوات.

يعود ألستر كروك قليلاً إلى الوراء، إلى ذلك اللّقاء الذي تحدث عنه جون هانا، الذي حضر ذلك الاجتماع في مكتب ديك تشيني رفقة بندر، هذا الأخير الذي طمأن تشيني عشية حرب تموز بجنوب لبنان، بأنّه من الممكن قص أجنحة إيران، وبأنّ العلاقة بين إيران وحزب الله يمكن تقويضها عن طريق «التمرد الإسلامي» داعياً ديك تشيني لأن يترك له أمر تنسيق ذلك وإدارته، وإذن هي الحرب الأهلية، وكان ألستر سبق في 2007 أن تحدث عن تحضيرات لحرب أهلية داخل الأراضي المحتلة نفسها، لكنها بعد ذلك أصبحت حرباً أهلية إقليمية.

يؤكد ألستر كروك من خلال تحليله لكل ذلك، بأنّ فشلاً ذريعاً واجه تلك المحاولة، كما يؤكد أنّ ما حدث في 14 نيسان، لم يكن عدواناً، بل إنذار ورسالة إيرانية لكيلا يفكّر الاحتلال والغرب مرة أخرى في أي عدوان على إيران التي صممت على ألّا تتعرّض مرة أخرى إلى الضرر الذي واجهته خلال «حرب الثماني سنوات».

لا يقف ألستر كروك في معالجة الأزمة على الأحداث، ربما نبّه إلى أنّ ما يحدث هو ناتج عن الغموض الذي رافق الحرب الباردة بين روسيا والغرب، لكنه يؤكد أنّ هناك أزمة تتعلق بالثقافة الغربية وأيضاً الاستعلائية الغربية التي حالت بينها وفهم ما يجري على صعيد معادلة القوة.

لقد كان من الطبيعي أن يحدث كل هذا، حيث الاحتلال بدأ يكشف عن طبيعته الدينية واليمينية المتطرفة، وحيث التف على فكرة دولة فلسطينية مستقلة، وبدأ يتحدث عن دولة دينية قومية للاحتلال.

وعليه:

لقد أخطأ الاحتلال والغرب إذاً كلّ التقديرات، وهي في نظري ناتجة عن هيستيريا الرّهان على عناصر غريبة، أضعفت أكثر حلفاء الغرب، لأنّ الاعتماد على العناوين التقليدية لحرب الثماني سنوات والعشرية الخيرة، أول ما ينقضها صُنّاعها، لأنّها تحوّلت إلى مستنقع آسن، والسبب دائماً في سوء التقدير هو الحالة الاستعلائية والاستخفاف بما يمكن أن يقوم به الطرف الآخر، لأنّه يملك عناصر قلب المعادلة.

من مظاهر الاستعلائية، الثقة المتخيلة لدى بعض المحللين عديمي الخبرة النظرية والعملية، في مجمل الإنشاء الذي يقدمونه عن مفهوم السياسة، ناسين بأنّه في إيران يتخرج سنوياً مئات المتخصصين في علم السياسة والعلاقات الدولية والقانون الدولي، وبأنّ تهجّي بعض المحللين المزيفيين لبعض المفاهيم السياسية، لا يعني شيئاً في حرب التوصيفات الحمقاء، إنّ الاستعلائية المفرطة تسببت في خيبات أمل كثيرة، على الرغم من أنّ الخوف على ميراث من المغالطة من الانكشاف ما زال يدعو البعض لمزيد من المضيّ في لعبة حرب العناوين التبسيطية.

حين يتم التمسك بـ«باراديغم» الحرب رغم استنزافه ونهاية مفعوله كنموذج، تبدأ المأساة الكبرى، اليوم هناك مرحلة انتقالية يصعب على من يستهلك أعقاب سجائر المرحلة القديمة، أن يواكب التّطورات الحاصلة، فالقواعد الجديدة للحرب تهدد الطرق التقليدية في النزاع بالكثير من الفشل، الغرب بدأ يدرك أنّه في حرج، لأنه سمح للمحاور بتدبير الأمر، كما أنّ الاحتلال يواجه مخرجات سياسته الاستعلائية، هذا بينما ينتعش محور تكتل غرب آسيا، لأنّه يحقق مكاسب نوعية في عملية الصراع.

في هذا النزاع، يبدو الجمود ضارب الأطناب، فالعناد يجعل حراس العناوين التقليدية للنزاع في وضع حرج، فبالنسبة للقضية الفلسطينية، فقد باتت قضية العالم بأسره، وفاتورة ذلك من صمود أهلها الذين يؤمنون بعدالة قضيتهم، الحقيقة التي لا يمكن تجاهلها، يحدث ذلك بعد سلسلة من الإجراءات التي كانت تستهدف هذه القضية وتقترب من ساعة التصفية الإستراتيجية، الخراب الكبير الذي حصل ويحصل في غزة، هو معضلة الاحتلال وليس معضلة الفلسطينيين، الثمن التاريخي المضاعف الذي يفرضه احتلال كان بصدد إطلاق رصاصة الرحمة على الحق الفلسطيني.

يدرك الغرب والاحتلال، أنه بعد كل هذه التضحيات، وجرائم الإبادة، لا يمكن الاستهتار بحق شعب يتعرّض للاستيطان والإبادة والتهجير والتّآمر.

لقد تجاوزت الأحداث النموذج التفسيري التقليدي، علما أنه ليس إطاراً معرفياً بقدر ما هو نتاج كابينيت الحرب، هو توجيه ديماغوجي أكثر مما هو نموذج تفسيري، لكن المفارقة أنّ المرحلة الأولى كان ضحايا العناوين الزّائفة هم عامة الناس، وكان مروجوها هم الدعاة، لكنَّ مروجيها اليوم هم نخبة ملتبسة من مثقفين غير وازنين فاشلين في إبداع نموذج جديد في انتظار ما يجود به كابينيت الحرب.

إنّ الحرب تُنتِج مشاعر الأحقاد كما هي نِتاج لها، والتي تصبح في حدّ ذاتها دعامة للأفكار الزّائفة، إنّ وظيفة الأفكار الزّائفة هي نفسها تصبح مستحيلة مع تطوّر الوقائع والأحداث. وإنّ الخبير الإستراتيجي هو الذي يدرك تحوّل السُّلم الموسيقي للأفكار، لكن ماذا لو كان العازف ما زال على عهد آلة الكمان المصنوعة من طارّوا «فليطوكس» وخيوط من ذيل النّغل؟

كاتب من المغرب

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار