موفدو أميركا بين الشرق الأوسط والصين.. تبريد هنا تسخين هناك
د. رحيم هادي الشمخي:
بقدر ما تجهد أميركا لشراء التهدئة/الاحتواء في الشرق الأوسط، بقدر ما تسعى إلى شراء التصعيد والتوتير مع الصين عبر محاصرتها تحديداً في منطقتي المحيطين الهادي والهندي. ليس بالضرورة أن تكون الحرب مع الصين هدفاً أميركياً (في الوقت الحالي) لكنها تبقى خياراً قائماً في حال لم تقم الصين بإنهاء مسار «الإنتاج المُفرط» وهو ما باتت واشنطن تطالب به علناً، مع سيل من الإجراءات الحمائية المتصاعدة من جهة، ومن التهديدات والضغوط ضد الصين من جهة ثانية.
واشنطن في كلتا المهمتين لم تصل إلى غايتها بعد، أي الاحتواء في الشرق الأوسط فما زالت عوامل الانفجار الكبير قائمة وبأعلى مستوياتها، رغم بعض الأجواء الإيجابية التي تسعى الإدارة الأميركية لنشرها في سبيل التأثير والضغط على الأطراف المقابلة في المنطقة، باستثناء «إسرائيل».. كذلك لا تنجح واشنطن في إيصال التصعيد والتوتير مع الصين (وفي منطقتي الهادي والهندي) إلى المرحلة التي تدفع الصين نحو التنازل والقبول بالمعروض أميركياً، حيث لا تزال القيادة الصينية تدير بكثير من الحكمة والتروي مسار التفاوض مع الولايات المتحدة بعيداً عن التصعيد، ومن دون أن يؤثر ذلك على مسار التطور الصناعي الهائل (ما تسميه واشنطن الإنتاج المفرط) أو على العلاقات التجارية الدولية التي تزداد اتساعاً وعمقاً وبما يكسب الصين مزيداً من أوراق القوة بمواجهة أميركا.
لكن واشنطن مستمرة في كلتا المهمتين، مرغمة، فالتهديد هو الأخطر تاريخياً الذي تتعرض له الولايات المتحدة، ولا تستطيع إلا إبقاء التركيز شديداً على الصين والشرق الأوسط وإن كان التركيز يبدو أكبر على الثاني، وهذا يعود فقط إلى حالة الحرب (جبهة غزة وتداعياتها الإقليمية) والتي لا يمكن معها لواشنطن إلا أن تقيم في المنطقة لتدير كافة خيوط الحرب (والنتائج تالياً) وبما يعيد المنطقة إلى عهدتها، وفي هذه الإعادة تتواجد الصين بصورة كبيرة، في ظل التوجه شرقاً الذي باتت تعتمده عدة دول وازنة في الشرق الأوسط .
قبل نحو أسبوع اختتم وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن زيارة إلى الصين استمرت خمسة أيام، أعقبت زيارة لوزيرة الخزانة الأميركية جانيت يلين هي الثانية لها منذ بداية العام. ولا يبدو أنها حققت أي نتائج، رغم أن الموفدين الأميركيين باتوا أكثر مجاهرة/صفاقة في ممارسة الضغوط والابتزاز، ومطالبة الصين بالتخلي عن كل مكتسباتها كرمى لأن تبقى الولايات المتحدة بلا منافس على زعامة العالم.
وهو ما تفعله الولايات المتحدة في الشرق الأوسط بكثير من الخبث، ومن نصب الكمائن، وفي الوقت ذاته بكثير جداً من التروي والتهدئة والمهادنة مع الأطراف المهمة أو ما تسمى الأطراف ذات التأثير، ولا سبيل آخر أمامها إلا في اعتماد ذلك، كون خيوط المنطقة لم تعد بيدها بنسبة 99 بالمئة (وفق الجملة الشهيرة في سبعينيات القرن الماضي). خلال عقد مضى خسرت واشنطن الخيوط الرئيسية في المنطقة لمصلحة ألد الخصوم، الصين وروسيا، وهي اليوم تريد (ومن بوابة الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة) إعادة هندسة المنطقة (بناء أو استكمالاً لما هندسة كيسنجر بعد حرب تشرين 1973)، فبقدر ما توفر جبهة غزة لدول المنطقة أوراق مواجهة ومجابهة مع الولايات المتحدة باتجاه التخلص من سطوتها واعتماد هندسة ذاتية لعلاقاتها البينية ومسار تطور وتقدم يعزز قوتها في أي توجه مستقبلي داخلي ودولي.. بقدر ما توفر (على الجهة المعاكسة والخطيرة) فرصة للولايات المتحدة لاستعادة ما خسرته من سيطرة ونفوذ من جهة، وتمكين «إسرائيل» بصورة أكبر في المنطقة من جهة ثانية.
لكن جبهة غزة بقدر ما توفر هذه الفرصة للولايات المتحدة بقدر ما تحول دون أن تمارس العسكرة والحرب، الولايات المتحدة لا تستطيع حسم جبهة غزة بحرب مباشرة، ولا مداورة. ولا تستطيع -بفعل ما أحدثته الوحشية الإسرائيلية بحق أهالي غزة من ردود فعل عالمية غاضبة توسع العزلة الدولية لـ«إسرائيل» وتعمق مأزق وضعها في حالة إدانة ومحاسبة ومعاقبة أمام المحكمة الجنائية الدولية – لا تستطيع الولايات المتحدة تقديم الدعم بلا نهاية لهذه الوحشية الإسرائيلية، فهذه الوحشية تضع الولايات المتحدة نفسها في حالة إدانة ومحاسبة. لذلك فهي تعمد إلى كثير من التروي والتهدئة والمهادنة في إدارة الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، وفي ضبط تداعياتها الإقليمية، دون أن يعني ذلك أنها لا تمارس الضغوط والابتزاز على دول المنطقة للوصول إلى أفضل «صفقة» ممكنة لها ولـ«إسرائيل».
بالعموم، حتى الآن لم تؤتِ السياسات الأميركية أكلها، ويبدو أن الوقت سيطول، دون أن تكون النتائج مضمونة لأميركا، وعليه سيتقاطر المزيد من المسؤولين الأميركيين إلى المنطقة، وكما هي الحال مع الصين، إذا لم يتم الاحتواء والتهدئة وفق المصلحة الأميركية- الإسرائيلية، فإن خيار الحرب هو المتبقي إلا إذا استطاعت دول المنطقة أن تجبر الولايات المتحدة على التراجع والانهزام على
مستويين، الأول على مستوى رسمي مباشر، والثاني على مستوى تعزيز التوجه شرقاً ضمن سياسات واتفاقيات واضحة لا تترك خيارات أمام واشنطن.
بالنسبة للصين، المهمة الأميركية أصعب وأعقد، وربما هي مستحيلة، لكن أميركا لا يمكن لها التراجع. كل قضية وكل تهديد يمكن حله وتسويته، ولكن عندما يتعلق الأمر بالتهديد الاقتصادي، أي الزعامة العالمية الاقتصادية لأميركا فهذا أمر لا يمكن قبوله أو التراجع أمامه، فكيف إذا كان هذا التهديد الاقتصادي مسلحاً بقوة عسكرية في المراتب الخمسة الأولى عالمياً، وبعلاقات تجارية مع أهم القوى والتكتلات الصاعدة اقتصادياً.. وبـ«خيار نووي اقتصادي» وفق تعبير صحيفة «نيوز ويك» الأميركية يوم الخميس الماضي، والقائم على المراكمة الكبيرة للسلع الأساسية كالذهب والنفط، التي تعتمدها الصين.
وتشير نيوزويك إلى سيناريو قيام الصين عمداً بتخفيض قيمة عملتها/اليوان (الخيار النووي الاقتصادي) لتعزيز قدرتها التنافسية في الصادرات على الساحة العالمية رداً على الإجراءات الأميركية ضدها من جهة، هذا عدا عن أن ميزة التنافسية في الأسواق العالمية – من جهة ثانية- قد تغري صناع السياسات في الصين بهذه الخطوة، أي تخفيض قيمة اليوان، أو على الأقل جعله خياراً مطروحاً على الطاولة.
وتضيف نيوزويك: تحسباً للتداعيات المحتملة لتخفيض قيمة اليوان، زادت الصين مشترياتها من السلع الأساسية مثل الذهب والنفط وبما يخدم غرضاً مزدوجاً: توفير وسادة مالية ضد الصدمات الاقتصادية التي يمكن أن تصاحب خفض قيمة العملة وتعزيز قوة الصين التفاوضية على المسرح العالمي. ومن خلال تنويع ممتلكاتها من الأصول وتقليل الاعتماد على العملات الغربية، تهدف الصين إلى عزل اقتصادها عن الضغوط الخارجية والحفاظ على الاستقرار وسط المياه الاقتصادية المضطربة، وفق تعبير الصحيفة الأميركية.
أيضاً تؤكد نيوزيك أن وراء مراكمة السلع الأساسية، قد يكون استعداد الصين لخطر محتمل أو تداعيات دولية ناجمة عن أعمال مثل غزو تايوان، ومن خلال تعزيز احتياطياتها الإستراتيجية من السلع الأساسية وتنويع ممتلكاتها من الأصول، تهدف الصين إلى تعزيز مرونتها الاقتصادية والإبحار بثقة في الشبكة المعقدة من الجغرافيا السياسية العالمية.
صحيفة «برافدا رو» الروسية، وبالتزامن، تحدثت عن خيار «المواجهة الحتمية» مع أميركا، الذي تستعد له الصين. وتقول: في الغرب تم إطلاق العنان لهستيريا تستهدف الصين، يسمون بكين «شريك للمعتدي» على أوكرانيا، ويتهمون القيادة الصينية بالتحضير للهجوم على تايوان، فضلاً عن الصادرات «المفرطة» من السلع الصينية الرخيصة. وقيل للصين بعبارة واضحة: أوقفوا هذه الصناعات الفائضة.
وتضيف: أميركا أبرمت اتفاقيات أمنية مع أستراليا والمملكة المتحدة ضد الصين، ونشرت نظاماً هجوماً صارخياً متوسط المدى في الفلبين يصل إلى الساحل الصيني.. وبناء على هذه المعطيات تستعد الصين لحرب مع الولايات المتحدة.
وتشرح الصحيفة الروسية كيف أن الصين تعمل على التخلص من السندات الأميركية لمنع مصادرة أصولها، كما هو الحال مع الأصول الروسية، وفي الوقت نفسه تراكم مشتريات الذهب، وتقول: الذهب هو الأصل الوحيد الذي ترتفع قيمته ولا يخضع لأهواء الولايات المتحدة، وإذا حدثت حرب فإن الصين ستحول الذهب إلى سلاح.
وعليه فإنه – وكما هو الحال في الشرق الأوسط – سيتقاطر المزيد من المسؤولين الأميركيين إلى الصين، وإذا لم ينجح مسار التصعيد والتوتير في الضغط على الصين (بمعنى ترهيبها) ودفعها للتراجع، فإن خيار الحرب حتمي، إلا إذا كانت الخطوات الصينية سابقة، وبصورة رادعة، عندها فإن أميركا هي من سيتراجع.
مع ذلك ورغم كل ما قيل ويقال في نتائج وأهداف ومآلات السياسات الأميركية في الشرق الأوسط أو ضد الصين، إلا أن لا أحد يستطيع التكهن بسيناريوات نهائية واضحة ومحددة.
أكاديمي وكاتب عراقي