بين موضوعية العلم وموضوعية السفسطائي.. الموضوعية كعائق سيكولوجي 

تشرين- ادريس هاني:

فقدت الموضوعية إطارها المعرفي، وقيمتها الإبستيمولوجية، وباتت لوحة تزحلق وهروب، وكل شيء بات واضحاً اليوم في علاقة الموضوعية بالعلم، تلك العلاقة التي بلغت ذروة الالتباس.

يهمّني هنا توجيه الغرض إلى البُعد النفسي لهذا الهروب الموضوعاني. إنّه هروب من الذّاتي ليس تقديراً للمسافة بين الذّات والموضوع، بل لخواء الذّاتي وسوء تموضعه في سياق المعرفة. نستوعب ذلك حين نعتبر أنّ الموضوعية بمثابة تدبير لوضعية الذاتي ضمن مسافة يُفترض فيها الدّنو والابتعاد بحسب أغراض العلم ومقتضياته. فهي، أي الذاتي، المتغير في معادلة العلم، بينما الموضوع ثابت في المعادلة، وليس الأمر يتعلق بتموضع نقائضي للموضوعية. إنّ المقابلة المذكورة خطيئة جنت كثيراً على العلم. انظر كثافة الذّاتي في الدرجة الصفر للعلم.

إنّ إدارة الذّاتي في المسافة المفترضة، سواء البعيدة أو المُحايثة، تمنح الذّاتي دوراً في قيام الموضوعية. وهذا ما يعني أن نفي الذّاتي هو فشل في قيام الموضوعية.

إنّ سيلان المفهوم في مُلاوغات من حوّلوا المفاهيم إلى مُغالطات، يفضحه الاستعمال السّطحي للموضوعية، كهروب من ذاك الخواء الذّاتي، وأيضاً التفافاً على الواقع بافتعال الموضوعية الطوباوية. يكفي المنطق طريقاً لتقويض فعل الهروب قبل تسليم الهارب لكرسي المنفوس- المعتلّ نفسياً- حيث لا يصمد الهارب بالموضوعي من الذّاتي طويلاً، بل سرعان ما يسقط في أسوأ أشكال الذّاتية.

يظل العلم مديناً لخبرة الذّاتي، لأنّه المتغير في معادلة العلم. فالموضوعي هو نفسه موضوع للذّات، بل إنّ تسامي الذّاتي عن انزياحاته، شرط تحقق الموضوعية. ففي نهاية المطاف، الذي يحدس، ويفترض، ويبادر، ويدير العملية الموضوعية هو الذّات، فبعض الموضوعية يقتضي المُعانقة، وبعضها يقتضي المُفارقة..

تُستعمل الموضوعية كتلويحة للقهر، وهي هنا تلعب دور حجّة السلطة في الحجاج، وهي حرب نفسية استباقية، كما أنّ الموضوعية كتلويحة لا تعني شيئاً سوى تهريجة ديماغوجية هدفها الهيمنة.

الذّاتي هو الواقعي، ومُحفزه نحو الموضوع هو المصلحة والرّشد. فالمصلحة تبعث على تقصّي الواقع، والرشد يبعث على تهذيب الذاتي من لواعج الذات. نحتاج في إدراك الواقع إلى كل المقولات التي تقوم بالذّاتي، ومنها الفعل والانفعال. وكما الواقع «الموضوعي» يحتوي على الردم والخراب أيضاً، فكذلك الذاتي ينطوي على هلاوس وانفعلات. والخطاب في قيام الموضوعية موجّه للذاتي، فلا موضوعية من دون قيام الذّاتي. إنّ ما نسمّيه بالتعاقل، هو ذلك النحو من التعاقد بين الذّات والعالم، بين الذات والموضوع، فالمعرفة بهذا المعنى هي تعاقلية.

وقد بات من مظاهر التّفاهة التي اكتسحت مجال المعرفة، هذا الاستعمال الفاسد للموضوعية، لا سيما وأنّ التلويح بالموضوعية في غياب أي خبرة عبر-مناهجية، تجعل المسافة بين الذات والموضوع تتسع، حدّ هروب المسافات نفسها. انظر إلى مجال العلم، حيث العالم متوجّه ناحية النتيجة. خطاب الموضوعية هو أقل استعمالاً في مختبرات العلم، لأنّ براغماتية العلم تقتضي الانفتاح، وتراهن على انفعالات الذّات، وأحياناً جنونها، لأنّ«أوريكا» غالباً ما ترتبط بلحظة إشراق، وانكشاف وحضور، وقبل ذلك بمقدّمات غير مصمّمة وغير واعية، أي ليست مقدمات الواجب لذيِّها، على نحو سببيّ ولا حتى إراديّ.

ليس لأحد الحق في التلويح بالموضوعية إن كان لا يقف على مدارك عبر-مناهجية، على الأقل تؤكّد متى ينتهي الذاتي ومتى يبدأ الموضوعي، فالواقع حَرِك، وديناميكي، وإنّ تأثير الذّاتي على الموضوعي لو شئنا المُضيّ في هذا التّصور من باب التقريب، هو كتأثير القياس على المادة الكوانتيكية، إنّ الذّاتي يعيد إنتاج الموضوع، الذي لا يبقى محايداً متى ما دنت منه الذّات أو بعدت، لرابطة أزلية بين الذّات والموضوع. فلقد اهتدت البشرية إلى حقائق وابتكارات دون أن تفي للمعنى الطوباوي للفصل التعسفي بين الذّات والموضوع. فإن كان المُغالط يرى إلى الموضوعية كواقع محايد، فسيصبح الإشكال في مرتبة تصور الموضوعية نفسها، حيث فكرة حياد الموضوع، قضية بالغة الالتباس.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار